Sunday, April 29, 2012

إحسب قيمتك؟

خرجت من منزلي منزعجاً لأمرٍ ألم بي ، و دخلت مؤسسة قبل إغلاقها بنصف ساعة  لانجاز معاملات ، حييت الموظف وابتسمت وجلست، رد الابتسامه والتحية ، وبعد إيضاح معاملتي الاولي ، إقترح قائلا:  إن رسوم خدمتنا عالية ، فقلت أنا أرغب أن أتمّها هنا ، فشرع  بإتمامها ثم تطلب إنجازها بعض البيانات الناقصة ، فعرضت المعاملة الثانية فقال ان مؤسستنا مكلفه كما أنك تحتاج بعض البيانات ، لو ذهبت خارجاً أرخص  لك ، عاد إنزعاجي السابق  إلي ، و ظننت انه يريد تصريفي لينهي عمله ، وينصرف الى بيته ، فقلت ببعض العدوانية ، يبدوا انك "تزحلقني" ليذهب اخر مراجع في هذا اليوم وينتهي عملك ! فقال بهدوء وثقة  انا اريد حماية مصالحك ، رددت عليه :  يتوجب عليك حماية مصالح من يدفع راتبك ، ان ما تفعله غير مقبول ، وبهدوء لا يناسب صغر سنّه ابتسم ، ثم قال انا اعتذر وكلامك صحيح وقام ينهي ما تبقى من  معاملات ،أعجبتني لباقته وسعة صدره ودماثة اخلاقه ، فقلت له أتقبل النصيحة ؟ قال نعم وبكل سرور ، قلت لم حاولت تصريفي؟ قال : لم أكن أريد تصريفك ولكني تفرست في وجهك وأعجبتني هيئتك وأردت ان أتودد اليك بان أرشدك لما ينفعك لكني أريد سماع نصيحتك ، قلت له الانسان نجّار أفكاره ، يقطع هذه الفكرة ثم يصنفرهاو يلمعها ويوصل هاتين الفكرتين ليبني بيتا سعيداً من أفكاره ، وهو من خشب هو من صنعه ليعيش فيه  ، ثم يحسب انه البيت السعيد الوحيد ، لكن بكل تأكيد هو بيوت أسعد منه، إن اغلب الناس تجد المتعة في الانتهاء من العمل وهذا من الافكار التي ننجرها ولا نفحصها جيداً ، ومن يفعل ذلك ، يبقى ينتظر نهاية  الحدث ،  وهذا الاسلوب يحولنا الي فأر سباق ( من كتاب happier للمؤلف Tal Ben-Shahar)  وهذا الفأر لا يستمتع بالرحلة وإنما يعيش فكرة نهاية الرحلة ليأكل الجائزه وكذلك الكثير من البشر ، يعمل بهدف أن ينتهي العمل ، ثم يعيش الاسبوع بهدف نهاية الاسبوع ، ثم يكدح طوال السنة ليحصل على إجازه فكلما  وصل  الي نهاية أمر وجد ان هناك هدفا اخر يركض له وأكلاً أخر يتذوقه ، وبالرغم من أن طريقة فأر السباق فيها بعض الإثارة ، الا إن هناك طريقة أفضل وبيت خشبي أسعد ، وهو أن يستمتع الانسان بالرحلة ثم يستمتع بالوجهة  وهذه نصيحتي لك  " ان تتمتع بالاتقان كما تتمتع بالانتهاء" .
لم يكن يدفعني للاستمرار سوى روعة إصغائه ، وصدق حديثه ، وحين لم أجد أشارة منه تفيد ثقل كلامي عليه ، أكملت  قائلا له أتعلم مالذي يجعلنا نتمتع بالانتهاء من العمل وليس في العمل ؟ فنظر إلي يفكّر ، لم أنتظر إجابته فقلت :انها القيمة ، اننا نصنع في عقولنا بيوتنا الخشبية التي نبنيها من أفكارنا وتصوراتنا ونجعل فيها قياسات الغرف حسب رغباتنا ،فنجعل قيمة كبيرة للانتهاء من العمل ( كأن نصنع حجرة كبيرة نرتاح فيها  ) بينما نصنع قيمة أقل لاتقان العمل - ويعود سبب جعلنا قيمة أقل للاتقان (وهذه النقطة أبينها للقارئ فقط لأني لم أشرحها له في حينها) يعود الى  مراحلنا الأولى ، ففي طفولتنا لم نكن نفكّر في قراراتنا بعمق ، وعند النضج يستمر الكثير منّا في طفولة التفكير من سرعة إتخاذ القرار واستعجال الجوائز وبراءة الطفولة التي لا تحسب العواقب ، ولا نحاول أن نقول توقفي يانفسي ، وفكّري بعمق أكثر - ثم أكملت الحديث وقلت نحن نستطيع ان نصنع المتعة في العمل والاتقان لكن الامر لن ينجح من اول مرّه ، يتوجب أن ننظر الى الاتقان أنه هو الهدف وليس الانتهاء هو الهدف ويكون ذلك بطريقة التفكير بعمق ، بأن نحسب فوائد الإتقان ، وثمرة الاخلاص بالعمل ، ونربطها بقيمتنا وصلاحنا وقدرنا وهذا الربط هو مفتاح التحوّل ، فكما يقول علي بن أبي طالب " قيمة المرء ما يحسن " وكلما أديت الخدمة تذكر قيمتك وقدرك  وأنها ستتأثر ثم حاول أن ترفع مستوي الخدمة للمستوى الذي ترتضيه  قدر ما تستطيع وعندما تنتهي من عملك راجع نفسك وحاسبها ان كانت تستطيع تقديم الافضل ، ومع التكرار سيأتي يوم تجد انك تذهب الي الاسترخاء ولا تجد فيه راحة ، لشعور أنك لم تتقن العمل كما يجب ، وهذا هو البيت الخشبي الأسعد و الراحة الحقيقة هي في السقف الاعلي للاتقان لا الهروب من العمل .
نظرت الي الساعة , فوجدت موعد اغلاق المؤسسة قد انتهي من نصف ساعة ، الا ان تعطشه للسماع قد حرك قريحتي وشفتي  فلم أتوقف ، إعتذرت منه على ما بدرمني واستلمت المعاملة المنجزة  ثم انصرفت ، وكما تقول العرب "قل لمن لا يخلص لا تتعب ".

عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Wednesday, April 18, 2012

شواطئ البشر

شواطئ البحار متنوعة برمالها ومياهها ، والناس كالشواطئ ، منهم  شاطئ رملي ، تنطلق فيه العيون فلا تجد آخره ، يأسر قلبك صفاؤه ، تتناغم زرقته مع نعومة رماله ، و بلا إدراك ، تنجذب مقترباً ، وبثوب السباحة تقفز مبتهجاً ، فتشق صخوره قدميك ، فتقول لنفسك : لن أعود اليه أبداً، ولو عدت دون أن تسبح لكان أفضل لك ، وهذا شاطئ جبلي مياهه بالاسفل ، يحدّه الجبل ، وتسأل نفسك: هل إقفز من أعلى لأسبح ، و لانك تخشى الانزلاق ، تتركه ولا تعود ، ولو عدت دون أن تقارب ثم راقبت البحر من علو لاعجبك المشهد، وهذا شاطئ عكر ، تضربه الرياح ، ، فتتركته دون أن تجرب السباحة لكنها ممكنة.
ومن غريب الدنيا ، أنها لا تحلوا بلا أناس نجالسهم ، ولا تصفوا بهم إن جالسناهم ، فإن أحسنّا إلى الناس أساؤوا ، وأن توددنا شكّوا ، وإن كشفنا ظهورنا لنريهم طيب معدننا، أسرجوها بطلابتهم ، وأن أدرناها لهم ، قذفوها بسهامهم ، فمن تعجبنا هيئته ، تصدمنا سريرتُه ، ومن يغلبنا طيبه ، يصفعنا طبعه ، ومن تخجلنا خدماته ، لا تسعدنا طلباته ، ومن لا نجد منقصته ، تنقصنا مجالسته ، الامر محير مستعصٍ عسير ، إن اقتربنا ، تأخروا ، وأن تأخرنا تقدموا.
والشواطئ من البحور ،لا تنفصل عنه ، فالشاطئ الجميل هو إمتدادٌ لبحرٍ عميق ، وكما أن الشواطئ تختلف عن البحور فكذلك البشر يفكرون بطريقة ثم يتعاملون بطريقة أخرى، فعلم النفس يكشف كيف نفكر و يفكّرون ، وعلم الاجتماع يشرح كيف يتفاعلون .
 ولأنها شواطئ و تزورها الرياح ، فيعلو موجها وليس ذلك من طبيعتها ، فكذلك البشر، فلا نستعجل بأحكامنا ، فمن يغضب لا يعني أنه غضوب ، فلربما شاطئه هادئ لكن رياحه عاتية ، وظروفه غير مواتية ، وتسكن الرياح ويعود للهدوء ، ولتقترب من الشواطئ ، إياك والهرولة ، فلربما حجر يجرحك ، أو حفرة تخدعك ، إستبدل خطواتك الكبيرة والسريعة بنقلاتٍ صغيرة مدروسة ، فمن يعجبك ظاهره ، افحص منه باطنه ، لكي لا تخطو وتتراجع ، وان خطوت اليه خطوة ، فانتظره أن يخطو اليك لتخطو اليه ثانية ، وإن وجدته غير مهيأ أعطه مزيداً من الوقت فلعل ظروفه غير مناسبة أو باله مشغول يمنعه أن يرى طيبك وجمال روحك .
 والناس ثلاثة ، فواضح ( أبيض أو أسود ) وملوّن وشفّاف ، وأولهم الواضح فهو إما أبيض ناصع أو أسود فاحم ، إما صديقٌ صحيح أو عدوٌ صريح وكلاهما لهم ذات المعاملة لان الخطورة المخفية قليلة ، فترى أفعالهم توافق أقوالهم فإن عادوك أظهروا العداوه وإن آخوك أظهروا المحبة ، وأما من يحتاط له فهو الشَّخص المتلوّن ، فتراه بكل لون ، تصبُغُه المصلحة ، صديق حميم ، ونمّام أثيم ، يجالسك فيتلوَّن بك ثم يتلوّن مع غيرك ، وان رآى مصلحته مع غيرك إستعمل ما قلت له ضدك ، فلا يؤمن جانبه ، فتّش عنه كي لا يخدعك ، ولا تهمل إشارات التلوّن وأهمها تغيير المواقف ، ومخالفة الاقوال  ، فهو شديد الذكاء في الاقتراب منك ، وشديد الذكاء في إستعمال ما تقول له ، ولا تفتّش عن النوع الثالث لأنه الشفاف ، الذي ترى صفاء نفسه ، وتعلم منه مايفكِّر قبل أن يفعل ، فإن آخيته فاعلم أنك حظيظ. 
ومن يريد أن تفتح له قلوب الناس فعليه بمفاتيحها وهي بفنون التعامل ، مثل فن الحديث ، وأدب الاستماع ، ولباقة المخالفة ، ومعرفة المقامات ، وفراسة الوجوه ، وعبقرية التحليل ، ومنتهاها في ربط الإشارات  بالأقوال والأفعال ،  وفهم  توجهات الناس  وتياراتهم ، وكلما مزجتها كنت أقرب الى الناس لانك تعرف ما تقدّم لهم وما تأخر عنهم ، ومن يتجاهل كل هذه الفنون ويريد من الناس أن يكرموه لأنه يحسن التبسٌم أو يجيد فناً واحداً ، فهو كشحاذٍ يدخل بنعليه قصر الملك ، ويجلس على كرسي وزيره ، ثم يرفع رجله في وجهه ، ويطلب ماءً لعطشه ثم يأمره بطلباته ، ويظن أنه سيجيبه.


عبدالله عبداللطيف الابراهيم
@boslaeh



Monday, April 9, 2012

راحلتك في رحلتك



كم هاجرٍ للاصحاب انطوى وغدى في بلده غريباً من الاغراب ، وكم محتاجٍ للخلان لايجد من يشكو له ، فأثقلت ظهره الايام و الليالي بالهموم  و ضاق به الحال فلا يجد أحد يفك له أثقاله وينزل عنده أحماله ، إعتزل الناس خوفاً من أذاهم لكنه هرب من مشكلة الى مشاكل ، ومن أذى الناس إلي الى أذاه لنفسه ، لم يشارك أصحابه حياته ، فشاركته الهموم صدره ، ترك أذى الناس لكنه أسكن الأذى أفكاره ، فتراه يعادي من يجالسه ويزعج أهله و يأذي جيرانه ، لكن لسان حاله يقول : أحبوني ، إهتموا بي ، لم لا تكترثون ؟ فهو لا يشبع حاجة ماسٌة لديه وضعها الله في قلبه وعقله ، إنه يحتاج من يحبه ويحترمه ويوجهه .
أعجبتني دراسة مشوِّقه وجميلة حول تعرُّض مجموعة من المراهقين  لأذي نفسي شديد لفترة طولة بسبب إضطهاد وضغط نفسي وتجاهل  الا أن فئة منهم  لم تصبها ذات الامراض النفسية التي أصابت غيرهم  كالكآبة والقلق  بالرغم من أنهم تعرّضوا لذات الاذى فقد ذكر الدكتور  Daniel j. siegel صاحب كتاب ( mindsight ) أن الدراسة  ركّزت على من لم يصب منهم ، فقد كان لديه شخص يشاركه لحظاته العصيبة ويعينه ويعضّد له ، فهجر الأصحاب ليس علاج لمشكلة أذى الناس وإنما هو مفتاح لمشاكل نفسية كثيرة .
إن أفقر الناس هو من يعرف الكثير ولا يجد الصديق ، يقول صلى الله عليه وسلم " الناس كالإبل المئة ، لا تكاد تجد فيها راحلة" ، أي أنك تجد الكثير من الابل لكنك تعجز أن تجد لك منهم راحلة تحملك وتريحك ، وأفضل الاصحاب من تطفئ عقلك الواعي معه وتتحول الى عقلك اللاواعي ، لا تحسب للقول والفعل حساب ، كأنك تخلو بنفسك ، فتعبّر عن مشاعرك بتلقائية ، وتتحدث عن ما يزعجك بانسيابية ، لاتجد منه إنتقاداً حول إسلوبك فهو قابلٌ بك بلا تحفظات ، ومطلقٌ لك العنان لتقول ما تشاء و مرخي حبال قاربك لتبحر حيث شئت ، إن ضايقك همٌ ، إغرورقت عيناه ، وأن أفرحك أمر علت ضحكاته ، علّمني الإستاذ فيصل عايد الفايز أن الصديق هو من أضع يدي في جيبه وهو مسرور ، وإن كان فارغا من المال، إقترض ليعطيني
 إن البحث عن الاصحاب أمرٌ عسير ، وأغلب الناس تصاحب من تلقاه لزمان ومكان إجتمعوا فيه دون عناء البحث ، وتنسى أن الصحبة هي بذرةٌ نبذرها مرّة ونسقيها مليون مرّة ، فتخيّر بذرك ، فانك ساقيه كل يوم ،وإحذر أن تبذر لشجر غير مثمر فإن البذور تتشابه ، وتحاشى بذر الشوك ، فكلما سقيته قوي شوكه ، وكبر جرحه . 
ولربما يتجرأ عليك صاحبك ، ويخطأ بحقك لا تحقيراً لك إنما ثقةً بمنزلته عندك ، وربما يكون الخطأ كبير لا يمكن لاحدٍ أن يتجرأ به عليك ، فننسى الوفاء ونستحضر الخصومة و تذكّر أن تضع خصامك في ميزان ذو كفتين ، كفة تزن بها السنوات التي قضيتها وكفة تضع بها الايام التي تخاصمت بها لتحكم بالعدل على صداقة طويلة .
إن الحاصل على الصديق هو من لا يكل ولا يمل بحثه ، يتقرّب من الكثير ، ويراقب الكثير ويخالط الكثير ، ليحظى بالقليل النادر ،" فلا كل من تهاه يهواك قلبه ، ولا كل من صافيته لك قد صفا" و " إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ، فلا خير في خل يجيئ تكلفا " لكن الكثير منّا يُختار ولا يَختار ويظن أنه بلا بحث سيطرق الصديق بابه طالباً صحبته، وقد تمنعه عزة النفس أن يخطب صحبة أحد،أو قد يحول الحياء من التقرب ممن ظهر حسن خلقه ، واحتُمل طيب سريرته ، يقول الفاروق لولا إخوة يتخيرون أطايب الكلام كما يتخيرون أطايب الثمر لما أحببت البقاء ، ونعود الى شعر الشافعي الذي أوردناه ونختم به " سلامٌ على الدنيا اذا لم يكن بها، صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا "

عبدالله عبداللطيف الابراهيم
@boslaeh