Friday, October 18, 2013

حين تموت الآلهة


من يطعن في الإسلام يرفض فكرة الدين، ويتصيد في الماء العكر زلات المسلمين ليلصقها بالإسلام، ولكن هذا يكشف ما بداخل من يطعن من كره للأديان.

اقشعرّ جسدي حين قرأت لكاتب يعزو تخلفنا اليوم إلى الدين، يقول الكاتب إن الدول المتقدمة ليس بها من يقول في خطبة الجمعة «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»، تألمت من جرأته على ربه، وتذكرت قوله تعالى «خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»، وتساءلت كما يتساءل أي عاقل: إذا كان الإسلام هو سبب التخلف، فلم كنا منارة العلوم حين التزمنا به، ولم الآن تخلفنا عن الحضارة حين تخلفنا عنه؟!

سألت نفسي: لو أن الكاتب ذكر أن الهندوسية سبب تردي حال الهندوسيين، وكان بينهم، فما سيقولون أو ماذا سيفعلون؟ وبحثت عن سبب قد يعذر الكاتب فما وجدت له من عذر، فالأديان بمجملها هي دعوة للفضيلة وتطهير للنفوس وعفو عمن ظلم وإحسان للغير، وكيف لعاقل أن يشتُم الجميل؟ وكيف نذمّ ديناً دعانا إلى حفظ الحقوق وذكرنا بالفضيلة ونهانا عن الإفساد في الأرض؟! وهل النفوس السليمة يمكن لها تقبّح الجميل؟

إن من يطعن في الإسلام يرفض فكرة الدين، ولأنه يعلم أن أغلب من يسكن هذه الكرة الأرضية له إله يعبده، ولا يمكن معاداتهم جميعاً، لذا هم أذكياء في فن التخفي، يعيشون كما تعيش الأفاعي، لا يسكنون جحورهم ولا يفصحون عن معاداتهم للدين، بل يتصيدون في الماء العكر زلات المسلمين ليلصقوها بالإسلام، والأفاعي لا تحفر جحورها، بل تتخفى وتتلون لتلدغ، ولذا يتخندقون في مساكن الليبرالية (الحرية) أو العلمانية، ويحاربون الأديان من خنادق غيرهم، وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يخرجوا ويكشفوا عما في صدورهم من كره للأديان، فهم يخشون أن يكونوا أعداء سكان هذه الكرة جميعاً.

إن من يطعن في الدين ويتشكك في وجود يوم للعدل الإلهي وهو يوم القيامة، يتساءل ليس بحثاً عن إجابة! بل ليبرر عيشته العبثية، كما يحلو له من دون ضوابط الدين، «بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»، ولأنهم يتبعون أهواءهم وشهواتهم، فأصبحت شهواتهم آلهتهم، فشهواتهم هي الآمر الناهي يقول تعالي «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»، وحين يموتون، تموت معهم رغباتهم وأهواؤهم التي اتخذوها إلهاً، أما إلهُنا فهو باقٍ حيٌّ لا يموت.

تم النشر في 2013/10/13 
عن الكاتب

Thursday, October 10, 2013

حناجرنا المظلومة


 
قبل سنين طويلة أتعبني ترددي على الأطباء لعلاج التهاب حنجرتي المزمن، لم أجد عند الطبيب سوى المضاد الحيوي الذي زاد تعبي، لكني وجدت أن سنوات التردد على الاطباء كانت سببا يمنع تفكيري في مشكلتي، وذلك لأني لم أكن أبحثها وكنت أوكل الطبيب فيها، وحين قررت أن اراقب نفسي علمت أن درجة برودة الثلاجة ومبرد الماء كانا خلف مشكلتي.
وزاد مشكلتي تعقيداً، إصراري على الاستمتاع بالمشروبات الباردة والمثلجات! لكنني وصلت الى تسوية وأغلقت ملف مشكلة حنجرتي للأبد، حين عدلت برودة الثلاجة والمبرد، وحين أوجدت حيلة لأجعل فيها حنجرتي في مأمن من البرودة العالية، فحين أشرب المثلجات أُبقيها في فمي لوهلة حتى تذهب برودتها.
ولكل من لامني لإصراري على شرب المثلجات والبارد فانني أذكرهم أن العرب قديماً حين يشعرون بالمتعة العالية لأمر جميل يقولون «ألذُّ من الماء البارد على العطش»، ففي ذلك الزمن لم يكن من الحرارة مهرب، فلم توجد مكيفات الهواء بعد ويتعذر عليهم تبريد الماء، فغالباً كانوا يشربونه غير بارد، ولو أخرجنا بعض الأعراب من قبورهم، وزرنا بهم اليوم أقرب مقهى، وسقيناهم الايس موكا والايس شاك ثم عرجنا بهم على عصائر الافوكادو بالمانجو او بالعسل، لربما ظنوا أنهم قد نجوا من النار فهذه أمنياتهم قديما التي كانت ستتحقق لهم فقط الجنة.
ولا ننسى أن رفاهية المثلجات، التي لا يمكن مقاومتها، لا تناسبنا، فأجسامنا ليست معدّة لاستقبال هذا القدر من البرودة، ومن يلازمها ويحبها فانه سيلازم الأمراض، فأضرار الشراب البارد لا يمكن لها أن تحصر، وأبسطها هي التهابات منطقة الحنجرة المزمنة التي تؤثر في السمع والنوم ومستوى الاوكسجين بالجسم وانخفاض المناعة، حتى لا نكاد نشعر أننا أصحاء، فالحنجرة التي هي حارس مرمى اجسادنا ستكون في إجازة طبية حين تحرز الفيروسات أهدافها.



Wednesday, October 2, 2013

حين يغلبنا البقر


أحضر كمية من الفواكه الطازجة التي تحب، ثم اشتر عبوة من ذات العصير الذي يباع، اعصر تلك الفاكهة وتذوّق العصير الجاهز وقارن، لن تحصل على ذات طعم فاكهتك المعلبة، حاول إضافة كمية هائلة من السكر، وستصل إلى %80 من طعم العصير المعلب، ثم حاول أن تضيف كل الأطعمة التي هي من الطبيعة، واحداً تلو الآخر، وتذوق، وفي النهاية ستكتشف عجزك عن محاكاة طعم العصير المعلب، فهذا الطعم لا ينبت أو يزرع، ولم يجلب من نبتة من الغابات البعيدة، بل هو مصنع في مصانع النكهات الصناعية، التي تتم بعمليات كيميائية معقدة، والتي تنتج عن مداخنها بعض الأبخرة السامة.واليوم لم يبق نوع نادر من السرطانات، إلا واستحضرناه في حفلة زارٍ مجنونة، قدّمنا فيها قرابين الأطعمة المصنّعة وأبخرة عوادم السيارات والمصانع، ولأن بعض السرطانات مثل مردة الجان التي لا تحضر حتى نقدّم لها قرابين من نوع خاص، اليوم كذلك حضرت بمستحضرات التجميل ومزيلات العرق، التي لا تخلو من الزنك والألمونيوم والرصاص، ولربما قريبا اليورانيوم.
منذ سنتين مضتا، كتبت في مدونتي على الشبكة، ترجمة مقال لدكتور أجرى أبحاثه على الفواكه والخضار، ثم سمّى مقالته بعنوان الدرزن القذر «dirty dozen» ذكر في مقاله أصناف الفواكه والخضار الاثنى عشر التي يجب ألا نشتريها، إلا إن كانت من سماد عضوي، حيث قدّم الدليل على وجود السماد الكيماوي شديد السمية داخل أجسادنا منها!
ولأن ما يبكينا قد يضحكنا، فالبقر قد سبقت جنسنا البشري، فهي قد عرفت كيف تتخلص من أطعمتنا الفاسدة التي نعطيها، لذلك اتفقت وادّعت الجنون وتحايلت علينا وتخلصت من فساد ما نطعمها إلى الأبد، وحفظت أبناءها وجنسها، بينما لا نزال (نحن البشر) نتناقش، ونأكل ما يضر وكل يوم جديد، ندفن ابناً جديداً بعد مسيرة طويلة من العلاج.
ورغم أننا جميعاً نعرف من هم الجناة وهي السموم ، ألا أن متخذي القرار يصرّون على أن يخلوا سبيلهم، وذلك لأنهم لا يعرفون تحديداً من بدأ الأذى، بالرغم من ثبوت انقضاضهم جميعاً ومشاركتهم بالجريمة.

قد نعجز عن أن نغير قوانين مجتمعنا لمنع المواد الضارة التي تضر بنا وبأولادنا، ولكن بكل تأكيد نستطيع تغييرها في بيوتنا.


Wednesday, September 18, 2013

النجوم الخمس

قبل سنين، نزلت في فندق ريفي تديره عائلة ألمانية بعيدا عن ضوضاء المدينة. وفي غرفتي الصغيرة، جلست في شرفتها الخشبية أستمع الى سيمفونيات تعزفها الطبيعة، ترتخي عيناي في سهلٍ أخضر ممتد، لكن رذاذ المطر المتساقط يعيق امتداده، وحين تحرك الرياح الأغصان أشتم رائحة الأشجار والأزهار، ورغم زخات المطر الخفيف وقفت على أطراف مباني الفندق طيور تغالب المطر مغردة لتشعرك أنك وسط أوركسترا ليست من صنع البشر، وفي تلك اللحظات أتذكر جوليا بطرس وهي تغني «وقَف يا زمان».في هذا الفندق، وقعت في غرام شوربة الطماطم بالزبدة التي يعدها ذلك الفندق، أحتسيها على أنغام زقزقة العصافير، ورغم انني وف.ّقت باختياره فإن اختياري لفندق وسط الريف لم يكن بتوصية صديق، أو بمعرفة قديمة، بل كان بدافع الفضول أولا، ورغبتي في الاسترخاء ثانيا، فحين كنت أبحث عن الفنادق في شبكة الانترنت، فوجئت بتقييمه الذي يقارب الكمال، والأعجب أن أعداد المقيمين له كبيرة، وهذا أمر نادر جدا، فبحكم معرفتي البسيطة بالاوروبيين، من الصعب جداً أن يحصل فندق على رضاهم التام، لذا دفعني الفضول لاختياره وكشف سره.في صباحية أول يوم لي، جلست أؤانس صديقي على طاولة الافطار، التي لم اذق منها سوى ملعقة من العسل، طلبت قهوتي المفضلة، وبقيت جالسا ريثما ينتهي صاحبي من افطاره، وبعدها طلبت فاتورة القهوة، حينها أتتني صاحبة الفندق وأخبرتني أنها قد لاحظت عدم تناولي الافطار المجاني، وبالتالي فإن قهوتي ستكون مجانية من الفندق، وفي المساء اشتد البرد علينا ففضلنا تناول العشاء في الداخل، ورأيتها تطوف على طاولات الضيوف تدردش معهم وتضاحكهم وتهتم بهم.هذه حكاية فندق صغير تديره عائلة ألمانية، حصل على أفضل تقييم في أذهان رواده وعقولهم قبل أن يحصل على تقييمهم المكتوب على صفحات الانترنت، لم يحظ هذا الفندق المتواضع بأعلى درجات التقييم بسبب خدماته أو طيب طعامه أو عدد نجماته، فهناك فنادق تفوقه في خدماتها، لكنها قد حصلت على تقييم أقل منه، بل كانت لمسة انسانية مصحوبة بالحب والاهتمام الصادق، فهل لنا أن نعلم أن اهتمامنا بمن حولنا يحتاج منا الى دليل نقدمه لهم لننعم باهتمامهم المقابل ونحظى بخمس نجوم في عقولهم؟!

Sunday, June 30, 2013

أحجيات أبي




قبل أيام , توفي من كان يرعاني كل يوم , ويقف بجانبي في كل أزمة ، ويسأل عني في كل مجلس  , فحملته عاليا وأخذته بعيدا وحفرت له عميقا وتركته وحيدا  فشعرت باليتم وأنا كبير





حينما كنت صبياً  صغيرا أخرج عن حدود الأدب ، كان أبي يُؤدبني ، وبعدها يسألني هل تسامحني ؟ولأني صغير لذلك لم أفهم مقصده  وظننتها أحجية ,  وفي يوم من الأيام أخذني أبي بسيارته من المدرسة  وعند باب بيتنا أخرجت قطعة الحلوى التي خبأتها في حقيبتي لآكلها , فأخذها أبي  من يدي وأعطاها عامل النظافة الذي ينظر إليها بشغف فلم أعلم مقصوده وظننتها أحجية , وحين صرت شابا يافعاً  لم أجد تبريرا  لفرط طيبه مع يسيء إليه  ،  فبائعه الذي طمع وزاد عليه السعر قال له أبي : كم تريد زيادة لترضى ثم أعطاه  ، وحين سألته  كيف تقبل بأن يرفع عليك السعر ؟ قال رحمه الله : " لحية المغلوب بالجنة " ولأنني كنت حينها قد كبرت سألته عنها  فقال : يابني : كن مغلوباً ولا تكن غالبا , فالدنيا ليست بأمر يحرص عليه العاقل .


ومع مرور الأيام علمت أن أبي يخفي في أحجياته حكمته ففطنت لها  ، وفي أحد المناسبات التي تغيب عنا أشخاص دعيناهم , سمعته يقول لنا " الكل مشغول  والكل معذور " واليوم علمت منها سر صفاء صدره وطيب نفسه ودوام ابتهاجه


قبل أكثر من شهر اشتد مرضه , ودخلت حجرته  التي  تملؤها الكتب  محاولا إقناعه بعملية جراحية , فحدثني حديث المفارق لي - وقد كتبت هذا المقال بعد ذلك الحوارلإحساسي برحيله -  حدثني حديث الملاقي لربه ، يقول لي و في مريئه ورمٌ لا يرجى شفاؤه ، يمنع لقماته ويخنق أنفاسه  ويسرق صوته  : أنا في نعيم لا يعلم فيه الا الله ، أبهرتني كلماته ففقدت كلماتي لأعلّق ، وحاصرتني مشاعري فلم أجد ما أقول ، فاكتفيت بأن تبسمت ، وسألني مالك تتبسم فقلت له : أنت في مرض وضعف وهزال وتقول أنا في نعمة لا يعلمها أحد ! .   نظر إلي متأنيا وقال لي : لولا أن أفضح نفسي لتكلمت ، خنقتني عبرتي ، لكني علمت إنه لديه ما يود الحديث عنه ، فضبطت مشاعري وضغطت على ألفاظي  وقلت له مستحثا :  اما بنعمة ربك فحدث !


طأطأ رأسه وقال ونعما بالله ، ثم قال بصوت أجش متقطّع  ( بسبب مرضه ) لقد عشت خالي من الهموم  سنين طويلة ، هل في هذه الدنيا أكبر من هذه النعمة ؟ ولقد أعطاني الله كل شي طلبته  وكل شي لم أطلبه ، لم أكن أتصور أن ابلغ عمري هذا دون أن احتاج أحد ودون سؤال أحد ( لم يكن رحمه الله يسأل الناس حاجة قط ولا حتى أولاده ) ، حدثني وعيونه تتلألأ شوقاً لربه ، وقلبه الضعيف يخفق رغبة بلقاءة ، لم يكترث بمرضه أو بتدهور صحته فهو غنيمة كبيرة لتكفير خطاياه التي لا يمكن لمثلي أن يراها، حدثته عن مرضه وأنا أراه حفرة أخاف عليه أن يقع فيها و حدثني عن مرضه وهو يراه عتبة يرقاها لترتفع يده وتتمكن من طرق باب ربه الكريم ليفتح له باب رحمته، حدثته لإجراء عملية جراحية وقلبي يتقطع على صحته وضعف جسده وحدثني حديث من لا يكترث لجسده ويظنه ثوب كلما اهترء كلما قرب استبداله .


أصررت عليه كثيرا  ,,, وبعد إلحاحي ,,, أطرق  قليلا في لحظة صمت وقال لي : عبدالله ،  مم تخشى علي ؟  أبهرني سؤاله ولم أستطع أن أذكر الإجابة ففاجأني بقوله :هل هناك  أكثر من الموت ؟




Thursday, June 20, 2013

طريق الله الواسع

 الله هو الذي خلقنا وأمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون، نحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين.
------------------------------------

عندما كنّا صغارا، كان الأهل يستخدمون بعض الصور ليغرسوها في مخيلتنا لإخافتنا من بعض الأمور التي تضرّنا والأمثلة كثيرة، لكننا كبرنا وصغرت تلك الصور، فلم يعد لها تأثير، لكن عقولنا محشوّة بكثير من الصور التي لا دخل لأهلنا بغرسها، فمنّا من يظن أن الدين حديقة غنّاء وشجر، وبعضنا يحسبه شباكا وحفرا، بعضنا يهرب من الالتزام الديني كذبابة دخلت بين أشجار نسجت عليها العناكب شباكها، لا تكاد تبتعد عن شبكة حتى تلاقي شجرة أخرى تماثلها، تدور تبحث عن مخرج، فأوامر الدين - كما يرونها - كثيرة لا يتسع وقتهم لتأديتها، ونواهيه متنوعة لا يمكن التعايش معها بسعادة، فلذلك هم يستبدلون كثيرا من الالتفاف حول أوامر الدين ونواهيه باختراقها جميعا، والتحوّل من ذبابة تعلق بالشباك إلى زنبور - دبّور - يخترقها ولا يبالي.
لكن تصوّرنا للدين بشباك العنكبوت - رغم كل سماحته - ليس وليد الصدفة، بل هو مجهود جبار يرجع الجهد الاكبر فيه للشيطان، فبحكم خبرته القديمة بالبشر، فهو يعرف كيف يرسم تلك الصورة في عقولنا ليخرجنا من فئة من قد عمل «عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (التوبة: 102)، لنكون من الذين يقولون حين تتوفاهم الملائكة «رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين» (المنافقون: 10)، ولان الشيطان يعرف تماماً ما هو الفارق بينهما، لذلك غرس تلك الصورة التي في مخيلتنا لتكون أوامر الدين ونواهيه مثل شباك العنكبوت، وساهمت في تحوّلنا إلى زنابير تتعدى محميات الله من دون اكتراث.
ولأن الطريق الى الله واسع، فهو يسعنا بذنوبنا وتقصيرنا وزلاتنا وأهوائنا ووسوسة شياطيننا، نحملها معنا ونسير فيه مثقلين ــ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنا ــ ونحاول أن نتقدم، فالذي قد خلقنا هو ذاته الذي أمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون،، ولربما كان اختباره لنا بتضحيتنا له، فنحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين، فنحن نقول «صراط الذين أنعمت عليهم»، ولا نقول صراط الذي أنعمت عليه، والفارق أن الطرق للرحمن كثيرة، كما أن الذين أنعم الله عليهم كثر، مثل أبواب جنته واسعة ومختلفة، وليست بابا واحدا، بل الطرق اليه واسعة، ولها هامشان، هامش على اليمين، به تكون النوافل والسير فيها الى الله أسرع وأقرب الى مرضاته، وهامش يسار يسعنا إن أخطأنا وزللنا ووقعنا في الحرام، فنحن لم نخرج عن الطريق، لأننا لم نزل نسير إلى الله، وكل ما يلزمنا هو أن نعوّض هامشنا اليساري من هامشنا اليميني، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: «وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (هود: 114). قال الرجل: يا رسُول الله ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلِّهم.
فلا يلزمنا أن نكون ملائكة لنكون في الهامش اليميني، ولا يعني وطئنا للهامش اليساري أننا شياطين، ومن استطاع أن يلزم هامش اليمين، فإما بمعونة الله وهو ذو حظ عظيم، أو أنه أثقل على نفسه غافلاً أن الطريق إلى الله طويل.
والمؤمن لم يؤمر بما يشق عليه، بل أمر بما يستطيعه فقط، يقول صلى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه: «ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».. وقد أورد صحيح الجامع الصغير حديثاً حسناً يقول فيه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ صاحبَ الشمالِ - الملك الذي يكتب السيئات - ليرفعُ القلمَ ستّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئِ، فإن ندِم واستغفر اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدةٌ».
عبدالله عبداللطيف الابراهيم
http://www.alqabas.com.kw/node/774682

Tuesday, April 16, 2013

خفايا التحايا



* أعاصير المشاعر و هيمنة عقولنا وطبيعتنا البشرية قد تجعل  السلام على الغير مهمّة شاقة ، ورفع اليد بالتحية معضلة

يعرفوني بالثقة العالية، لكني  شكاك حتى النخاع ، وشكي يبدأ في أفكاري ،  ففحصي لأفكاري  فكرة تلو الفكرة مستمر بلا كلل حتى أطمئن أن أفكاري حقائق صلبة ، وليست تصورات  التي أحرص أن أدفنها وهي حية ،ومن تلك الأفكار ما يصاحب إلقاء التحية ، فحين أحيي أصحابي وأقاربي ، أشعر بسعادة لمبادرتي لهم ، بينما أشعر بثقلٍ في نفسي مع بعضهم  حين  أرفع يدي لأحيي من  لا تربطني بهم علاقة شخصية  أحياناً وأحسُّ بريحٍ عاتية تجتاح مشاعري وتقلّب سكون أفكاري ، وطالما سألت نفسي لماذا يصبح السلام ثقيلاً  علي رغم محبتي للسلام ،و لم أكن أجد الإجابة إلى وقت قريب ، حتى اطلعت على تفسير علمي ساهم في فهمي للسبب، فلأننا نجهل حقيقة مشاعرنا مع من لا نعرفهم جيداً، لانجد سوى أسلوبهم الذي حيّونا به للاسترشاد على حقيقة مشاعرهم ، ولذا نقوم  بتقليد طريقتهم بالسلام علينا ونحاكي مشاعرهم تجاهنا ، فنحن في حالة غموض المشاعر نستعير طريقتهم التي يحييونا بها  ،و نتقمّص مشاعرهم التي يشعرون بها ، ولربّما كان سلامهم مشوباً بابتسامات المجاملة (الصفراء) ، ولربّما كان التلويح باليد يظهر منه ثقلٌ  في النفس  ، ولذا قد نستحضر تلك المشاعر  بطريقة تسيطر عليها عقولنا  اللا إرادية ، أو لربّما شقنا البهيمي .
فالبهائم لا تحيي بعضها البعض ، ولو راقبنا لوجدنا أن البهائم تسيطر عليها مشاعر العدائية حين تلاقي أبناء جنسها ، ولو أخذنا دجاجة غريبة وأدخلناها على الدجاج، لوجدناهم يتناوبون على نقرها، وعدت لنفسي أسألها: كم  أحتاج من الوقت لأتخلّص من بعض صفاتي البهيمية  لأصل إلى إلقاء التحية على من عرفت و من لم أعرف ؟
ورغم أن تلك المشاعر والأفكار لا تزال تزورني، إلا أن مداهماتي للقضاء عليها هي حملة شرسة ، أجبر فيها نفسي  البدء بالتحية وتقديم الإبتسامة ، إلا أنّ البعض يواضب على عدم رد تحيتي له  ، فأحرص  أن أدفن في مقبرة أفكاري تلك الأفكار التي تزورني حين عدم الرد ، وأجبر نفسي على أن لا أفكّر بأسبابهم التي منعتهم من الرد على تحيتي ،  فالكل مشغول والكل معذور كما يقول أبي دائماً ، إلا إني بذات الوقت أمتنع عن السلام عليهم رحمة لهم ، وإعفاءً لهم من مشقة ردهم لسلامٍ ثقيل على أنفسهم .
لكنني أشتاق للشقاوة السابقة ولأمرٍ في نفسي أخفيه  ، فأتأخر بالبدء بإلقاء التحية علي من أحييّهم عادة ،  يدفعني الفضول لمعرفة كيف سيكون سلامهم علي ، وأرقبهم من خلف نظارتي الداكنة ، لأرى من لازمت  البدء بالسلام عليه لسنين طويلة ، تصيبه الحمّى من رفع يده مبتدئاً ، ولربّما رفعها ،لكنه يشيح بوجهه في الجانب الآخر ، كي لا أرى علامات الامتعاض على وجهه ، فكأنه حين يرفع يده بالتحية ، يرفعها مستحضراً خسارته الكبيرة بالسلام علي ، أو مستشعراً  لكرامته التي أهدرت حين يتدنّس مقامه السامي بالنزول إلي ليبادرني التحية  ، هنا أهمس في نفسي" يا مسكين ، والله  لو علمت تكلّفك لبادرتك " .
لكن  دمث الخلق منهم  يبادرني ، تسبق ضحكته تحيته ، ويعتريني الخجل من شقاوتي ، و تعاتبني نفسي بعدها وأتذكّر أن تلك الشقاوة جعلتهم خيراً مني ،  فرغم كل مابي من شكوك ، إلا أنني موقن أن خيرنا هو الذي يبدأ بالسلام . 

عبدالله عبداللطيف الابراهيم

أبراب مخفية



حين تعصف رياح الشتاء الباردة  تجمعنا نارها الدافئة ، وحولها يحلو التسامر ، تمتعنا الكستناء حين تتفقّع ، وشاي يوضع يترقّد ،  وطفلٌ  يظن الجمرة ثمرة ، يركض نحوها  فيبعد ، لكني لا أبعد أطفالي ، فبمجرد أن يبلغ طفلي الحبي ، أمسك يده وأقربها من النار ، ثم أقول له ،أحْ أحْ ، وبعدها أضع يدي علي  إبريق الشاي الصيني الموضوع قرب النار لأتأكّد من حرارته ،وأضع يد طفلي الصغير عليه لتمسّه  حرارته ،  لا تزيد على لسعة الناموس أو النحلة ، لكنني بهذا أنقل ملفاً كاملاً  عن خطورة النّار إلى طفلي الصغير ، وبعدها أقرب يد طفلي ثانية  ، لأراه يسحبها من يدي ، فيطمئن له قلبي في غيابي ، وتنتهي فترة حمايتي له عن النار ، وأتفرّغ لتعليمه غيرها، وتبدأ حمايته لأخوانه وأقرانه ، فتراه يصرخ  لمن يقترب من النار ببراءة واهتمام  شديدين قائلاً  أحْ أحْ.

وكذلك هي الحياة ، بها الكثير من الطرق المختصرة تكفينا عناء تكرار أمور تربوية كثيرة ، وكم أتألم حين أرى بعض المربين من الآباء أو الأمهات يكررون كل يوم ذات الطقوس التربوية ، فهذا يطلب من إبنه أن لا يتخاصم مع  أقرانه ، لكن ابنه يعود للتخاصم ويعود أبوه لزجره ، لكنّ أباه لو علّمه مهارات التعامل مع أقرانه وأن من فوائد التسامح  والتغاضي عن زلاتهم هو محبتهم له وحرصهم على اللعب معه مجدداً ، أو أنه حدّثه أن التنازل عن الحق أنفع من التمسّك به  لوجد طريقاً مختصراً يخرج به من دوّامة الطقوس التربوية  ، وبعدها يتفرّغ أباه ليعلّمه مهارة جديدة   لكن الكثير لا يبحث عن هذه الطرق يمنعه وهمه وظنونه بعدم وجود طريق أقصر من طريقه ، يقول المفكّر الأيرلندي الحائز على جائزة نوبل في الأدب  برنارد شو ( ١٩٥٠ )  إن أكبر المشاكل هو الوهم الذي يمنعنا أن نرى المشكلة .
  لكنّ تلك الطرق موجودة ،  لا أفتؤ  أبحث عنها وإن لم أجدها، ولا أكلّ  من التفكير بها ، وجدتها في تعليمي صغاري كما وجدتها  في تسبيح ربي الباري ، فحين أسبّحه عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشة ومداد كلامته ثلاثاً ، تفوق تسبيحاتي  تسبيح  من أمضى ساعات الضحى يسبّح كما في حديث أم المؤمنين جويرية .


عبدالله عبداللطيف الإبراهيم 

Thursday, March 21, 2013

الرايخ الألماني




في القرن الماضي ، هجر الألمان الديمقراطية  وصوّتوا لجنديٍ  رغم علمهم أنه يقصي المخالفين ويحقد عليهم ، لأن عزف  قيثارته أطرب مشاعرهم لا عقولهم فما كانت أغنيته ؟ وماذا نتعلّم من وصوله للحكم ؟
--------------
في ١١ نوفمبر  ١٩١٨  إنتهت الحرب العالمية الأولى ، بتوقيع  اتفاقية فرساي بشروطها المهينة  للألمان ،  ودخلت ألمانيا في سنينها العجاف ، فعصف الفقر بهم لدفع فاتورة حربهم الأولى والتي تقدّر ب ٤٥٠  مليار يورو طبقا للقيمة الحالية للمبلغ ، وتحول الجندي الذي عرفت عنه الشجاعه في الحرب العالمية الأولى الى العمل السياسي ، واعتلى منصات الخطابة ليلهب الجماهير ، واستمر سنين طويلة يحمل مطرقة كراهيته الثقيلة باتهام اليهود والسلوفاك والاشتراكيين باسباب الدمار والفقر والفساد  ويضرب بها أجراس ثقافة ألمانية أصيلة ، غرسها أدبائهم ومفكروهم وأجدادهم ، بان جسّدوا لهم النجاح " نصرٌ في معركة"  والرجل الناجح "جندي شجاع" فكانت ثقافة الحرب المغروسة بهم مطيته التي اعتلاها بخطاباته وكانت ثقافتهم تربوا عليها أغنيةً رقصوا عليها صغارا ولا يملكون الا أن تطربهم كبارا ، رفع لهم هتلر إتفاقية الخزي منادياً لجيوشٍ  فرقتها الهزيمة بصيحات المجد والعزيمة ، فكان له ما أراد وحصل على ٤٣،٩ ٪ من الأصوات  ،  لم يستطع الرئيس الألماني الإستمرار في رفض تعيينه كمستشار - لشكوكه في قبول الحزب النازي مبادئ الديموقراطية - لكن هذا الجندي الذي كان يعمل في إيصال الرسائل إلى جبهات الجيش في الحرب العالمية الأولى تولى السلطة تحت الضغوط ووصل إلى أعلى هرم السلطة  ، ليُحرق البرلمان بعدها واتُّهم الحزب الشيوعي بتلك الجريمة و قتلت الديموقراطية وقُتل الكثير من خصومه السياسيين  واستمر الحزب يحكم ألمانيا من ١٩٣٣ حتى ١٩٤٥ و تحولت خيوط قيثارة ذلك الجندي إلى مشانق علّقت للمناوئين وظهر،  وجهه الحاقد بعد أن إنتهت صلاحية أقنعته التي جعلت الملايين تفسح له الطريق ، فبدأ بإكرام جيرانه بغزو بلادهم والسطو على مقدراتهم ، وقتل مثقفيهم كي لا تقوم لهم قائمة .
إن وصول هتلر لأعلى السلطة أمرٌ يتحمّل مسئوليته كل ألماني أطربته الطائفية وأنغام الإنتقام فكان مشاركاً أصيلاً  في تلك الجرائم و ساهم بصنع ديكتاتور بطش به قبل أن يبطش بأكثر من  50 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية ،ولا يستثنى من تلك الجريمة كل  من تشكك في جدوى الشورى والديموقراطية و ساهم في إعتلاء ديكتاتور يقصي المخالفين رأس سلطتهم ، ولنعلم أن السياسيون وبعض الأحزاب الألمانية قد باعت بلدها ولم يمانعوا أن يكون هتلر في السلطة من أجل كرسي وزارة أو منصب ووجاهة  ،فهل هناك ما نتعلّمه من إفراد الألمان لجندي بكافة السلطات وترك العقول المفكّرة والعلماء الألمان الذين طوروا القنبلة النووية في أمريكا وأنهوا  بها الحرب!؟

نعم ، فلكل من تتراقص في أذنه خطابات السياسيون ، ليتذكر كيف تراقص الألمان على أنغام هتلر،  فلنحذر ممن يطربنا ولنسأل هل ينفعنا؟ والطبيب الناصح لا تعجبنا نصائحه  وقد تؤذينا على المدى القصير ، لكنّها تحافظ علينا ويقال قديما" إسمع لمن يبكيك لا من يضحكك"  ولنتعلّم أن التفرّد بالسلطة هو أشر الشرور ، فلنجعل مكاناً لمن يخالفنا ليصحّ جسد أمتنا ويتعافى ، وأن أشر من اعتلى السلطة من يحمل الحقد في قلبه ولا يتسامح فهو قادر على إنفاذ حقده ، فلنبحث عن تسامحه وإصغائه قبل أن نوصله .
لقد صوّتت ألمانيا الرايخ  Deutsches Reich كما يسميها النازيون في  حالةٍ  من الضعف والفقر والهزيمة والإنكسار ، واختاروا عازف قيثارة يغني لهم  أمجادهم التي حققوها في الرايخ الأول "الامبراطورية الرومانية"  (962-1806) والرايخ الثاني "الإمبراطورية الألمانية الحديثة (1871-1918)"   فوافقوا أن ينشئ لهم الرايخ الثالث لكن قراراتهم تلك قد جعلت إرتفاع مباني ألمانيا العالية تتساوى بارتفاع قبور أولادهم ال7 مليون ألماني الذين قتلوا في حربٍ لم يجدوا فيها نصرا ولا عزا.
عبد الله عبد اللطيف الإبراهيم
boslaeh@

Thursday, March 14, 2013

مسجد أوهامي



فيه ، أقف بخشوع ، لا تشاغلني الدنيا ، أدرك تكبيرة الإحرام في كلِّ صلاة ، وحينما  أنهي صلاتي ، أدور بجسدي صوب جاري المصلّي، لأسلّم عليه مبتسماً ، وأتعرّف عليه ، وقفت أصلّي يوماً فاصطكت قدم جاري  بقدمي ،و أحسست باهتمامه الشديد للإصطفاف ، لقد أراد أن يستقيم للقبلة بعد كل ركعة  ، فصافحته بعد الصلاة ، وسألته عن أحواله ، وسألته عن فعله ، فقال : أريد أن أستقبل القبلة بكل أركاني ، وأريد أن أكون جنديا في صف مستقيم ،أو كصخرة في جدارٍ متسق ، فقلت له ألم: يشاغلك ذلك عن الخشوع ، فأجاب ، بأريحية ، نعم لكنني أعود لخشوعي بعد أن تلتحم قدمك بقدمي لنكون مدفعاً قذيفته الإيمانية لو أطقلت أصابت الكعبة ، فنقوّم إعوجاج أقدامنا لتستقيم ، أعجبني قوله لكنني أردت أن أصحح خطأه فقلت : هل سألت نفسك : لِمَ لم يخلقنا الله مدافع ؟ قال ماذا تقصد؟ ، قلت له : ألم ترى جسدك ، هل تعلم به شيء مستقيم ؟ فأطرق يفكّر ، فقاطعته قائلا: لم  تحمّل نفسك فوق طاقتها ؟ ألا تظن أنك تركت الخشوع وهو لبّ الصلاة وانشغلت في الإعداد للصلاة الذي ينتهي بعد أن تشرع فيها ؟ فقال سأستفتي شيخي، فقلت له مبتسماً لا تنسى أن تستفت قلبك!.
وذات يوم دخلت ذلك المسجد ، فكبّر بالصلاة رجل لم يطفأ هاتفه ، فأخذ يرن ويوقفه ثم يرن أخرى وبعدها يرن ، وفي كل مرة يخرجه من جيبه ليوقف رنينه ، ولينظر لمعرفة المتصل ثم يدخله في جيبه ، وحين سلّم علي صافحته بحراره وكأني أعرفه ،  وبعد أن تعارفنا قلت له : أتقبل النصيحة ، قال نعم وبكل تأكيد ، قلت له : هل الصلاة من المناسك والشعائر ، قال : نعم ، قلت له: هل تريد أن تأخذ أجر تعظيم الصلاة في قلبك ؟ قال : كيف ؟ قلت : أسمعت قول الله " وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"  لو عظمتها لأطفأت هاتفك ، فشكرني وانصرف
وفي ذات المسجد ، كبّرت بصلاة العشاء وكنت جنب الحائط ، فدخل المسجد مصلٍ مستعجل فأراد أن يدرك الركعة، فانحشر بيني وبين الحائط وغمرتني  رائحته   ، فسلمت عليه بعد الصلاة ، وسألته مبتسماً: هل ضاق بك المسجد لتصلّي في موضعٍ يضيق بقط ؟ فضحك وقال : لتكن أريحياً وتوسّع لأخيك المسلم ، ولا تحرمنا من أجر الصف الأوّل !  فقلت له: هل ظننت أنك ستؤذي من يصلي بجانبك برائحة دخّانك ، قال : ممكن ، نعم ، نعم ، ثم قطّب جبينه متحمساً ولكنه لن يمنعني  عن دخول المسجد ، فالصلاة أهم ، قلت له : أتعلم أن الأذى هو الحرام الذي يدخلك النار إن فعلته  أو الجنة إن منعته ؟ قال كيف ؟ قلت ألم تدخل إمرأة النار لأنها كانت تؤذي جيرانها؟ ألم تكن تقوم الليل وتصوم النهار ؟  أولست بجارك  ؟ ألم تعلم أن مومساً دخلت الجنة لأنها رفعت أذى العطش عن كلبها ؟ ،قال سأستفتي شيخي ، فقلت هل أخذت بقوله في الدخان ؟ فابتسم وانصرف
كل هذا حصل لي في مسجد أوهامي ، أما مسجد حقيقة أيامي ، فأنا زعيم المتخلفين عن تكبيرة الإحرام وعن الصلاة، تشغلني الدنيا عن المصافحة فأخرج أطارد مصالحي مستعجلاً ، إلا ماندر ، فإن آذاني من بجانبي أتصبّر حتى تنقضي دقائق الصلاة  ، فلربّما أجر صبري يعوّض تقصيري ، كما أنني أهرب من المناصحة فلربّما أتاني الشيطان فخلطت له نصيحة بتوبيخة  ، إلا ذات مساء ، فحين وقفت أصلي المغرب وقف بجانبي رجل كأنه أغتسل ولم يتنشّف ، يغمر ماء الوضوء رأسه إلى قدميه ، بلل المسجد وبللني ، آذتني تسبيحاته وتكبيراته العالية فهو يصدح بها ، فقلت في نفسي ، هذه المره سأجبر نفسي على إخباره بقول الله  "  ولا تجهر بصلاتك ولاتخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " فرفع يديه يدعو بعد الصلاة مباشرة اللهم إني أعوذ بك من الوسواس و الجنون ، فانصرفت بعد انتظار ، فلم يبق للنصيحة موضع !
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم
@BoSlaeh

Monday, February 25, 2013

مائدة عشائي


حين نذهب الى المطعم، ألاطف من يخدمني وأمازحه، وعلى الرغم من أنني قد سئمت من التكرار، فان مفعول تلك المزحات السحري يجعلني أكررها، فحين يستأذنوني لرفع صحني الفارغ، أشير باصبعي مبتسما الى قطعة يتيمة من الخس في صحني الفارغ تماما وأطلب منه أن يجعلها في عبوة مخصصة لأخذها معي المنزل، وحين ينظر الى وجهي مستغرباً من طلبي السخيف، يشاهد ابتسامتي ويعلم ممازحتي فينفجر من الضحك، فلا يعقل أن يضعها في عبوة!
وعلى الرغم من أن دافعي هو شفقتي لكثرة تلقيهم الأوامر العسكرية وزجرهم حين التأخر في الطلبات، فان السبب الأكبر هو حصولي على خدمة أفضل وعناية أكبر، فكلمتا ملاطفة خيرٌ من أوقيتي ذهب تدفع كبقشيش.
رغم أن ما أفعله هو نتيجة تجربتي الشخصية، فان تفسير قبولهم لملاطفتي وترحيبهم بي في الزيارات اللاحقة، تفسّره نظرية تبادل المنافع الاجتماعية (Social Exchange Theory) انها تجيب عن التساؤل: لمَ نقبل تكوين علاقات اجتماعية مع البعض ونرفضها مع الآخرين؟ فهذه النظرية تفترض أن العلاقات لا تنشأ الا اذا كان العائد من تلك العلاقة أكبر، وبالتالي فان العائد على أي علاقة اجتماعية بيني وبين من يخدمني هو عائد أكبر بالنسبة له ولذا لا يرفضها، ولكن التساؤل المنطقي هو: كيف يمكن لغيرنا أن ينظروا الى علاقتنا على أن عائدها مرتفع؟
ان عقولنا تلتقط الكثير من الاشارات من الآخرين (علم النفس الاجتماعي)، وهذه الاشارات تشمل أقوالهم وأفعالهم وطريقة لبسهم، والكثير من الاشارات يتم التقاطها والتعامل معها بلا وعي في العقل الباطن، وتعطى وزنا نسبيا في عقولنا، فعلى سبيل المثال: حين نقابل شخصا يتحدّث عن مكارم الأخلاق، فبكل تأكيد اننا سنصنف هذا الشخص ونقول انه شخص يسعى للخير، لكن تأكيد أفعاله على ما يقول سيكون هو ذا الوزن الأعلى لنقتنع، ويكون حديثه ذا تأثير بسيط وبانتظار تأكيد أفعاله، وهذه طبيعة عمل جزء من عقولنا التي تعمل في الخلفية وتهيمن على الموافقة على العلاقات الاجتماعية، ولربما كانت اشارات العقل الملتقطة تتعارض، وبالتالي سترفض عقولنا العلاقة لأنها مشوشة أو غير واضحة المعالم، ولا ننسى أن طبيعة عقل المتلقّي (من نرغب في انشاء علاقة صداقة معه) تساهم في تحديد قيمة العلاقة الاجتماعية طبقاً لاهتماماته وما سبق تعريفه لعقله على أنه مهم، ففي مثالي السابق، فالمستمع لمكارم الأخلاق قد يكون مهتما بالحصول على الأموال دون أي اكتراث بأي الطرق حصل عليها، ومثل هذا الشخص لن يطربه أي حديث عن الأخلاق ولن يهتم بمتحدّثه لكنه سيهتم جداً لو تحدّث عن ربحٍ سريع تحقق، فتراه يتقرب اليه لظنه بأن عائد التقرب اليه كبير.
وعلى الرغم من أن علاقتي بمن يخدمني بالمطعم عائدها المتصوّر يعد كبيراً لمن يخدمني، الا ان عائدها لي أيضاً مرتفع، فطالماً حصلت على معاملة أفضل وخصومات، والعديد العديد من الأطباق المجانية المزينة بابتساماتهم الصادقة.
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم
boslaeh@

Tuesday, February 12, 2013

بوابة العظيم




في زمن موسى - عليه السلام - كان البشر يجالسون الملائكة، كما ذكر بنو إسرائيل ونقلتها كتب علمائنا، الذين حدثوا عن بني اسرائيل من دون حرج، تنفيذا لكلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - و كان لمَلَك الموت رجل يجالسه من بني اسرائيل، يحدثه ويسامره، وفي تلك الأيام قال صديقه من الإنس: إن زيارتك تخلع لي قلبي، فكلما زرتني شككت في سبب زيارتك لي وأخشى أن تأتيني قابضاً لروحي لا قابضاً لحديثي، فضحك ملك الموت منه، واشترط عليه صاحبه أن يرسل له ملك الموت رسولاً، يمهد لزيارته ويخبره أنه سيقبض منه روحه، فوافق المَلَك، واستمر بعدها يزوره الملك لسنين طويلة، حتى كبر الرجل واحدودب ظهره، وفي مساء أحد الأيام طرق الباب ملك الموت فأدخله فلم يدخل، فقال له: إنني قد أتيتك اليوم قابضاً، فقال له صاحبه: وأين رسولك لي الذي أرسلته؟ فأجاب ملك الموت : ألم تر تجعد جلد وجهك وحدبة ظهرك والشيب في رأسك؟ أليسوا رسل ربك بقرب موتك؟! وقبض روحه بعدها.
«إن زيارة الموت لبيت - حتما - ستكون فاجعة وأمراً عظيماً، إلا أنها بوابة عظيمة نخرج منها من قوانين هذا الكويكب، الذي نعيش عليه بصفة مؤقتة، ويحكمنا قانون حرية الاختيار الزائل، وتنتهي بعد عبور بوابة الموت إلى قوانين اختبارنا الاستثنائية لننتقل الى القوانين تحكم فيها باقي المخلوقات، إنها قوانين الله السرمدية الأزلية التي ليس فيها اختيار، بل هو السمع والطاعة، وكأني أرى لوحة علّقت على هذا الكويكب الصغير «مكان مخصص للاختبار»، يقول جل من قائل: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا»، فحريتنا هي استثناء من قانون الطاعة «إئتيا طوعاً أو كرها»، لكن اختبارنا هو في الاتباع من دون اخضاع، فأعلمنا وأخبرنا بما سيكون بعد بوابة الموت وترك لنا القرار، لكن هذه الحقيقة البسيطة تحتاج منا الى أن نبني جسوراً من الإيمان فوق بحور من الشك لنصل بها إلى أرض الحقيقة، التي إن وَطِئْناها علمنا أن حياتنا هذه إنما هي ليلة صيفية قصيرة من سني حياتنا الطويلة بعد تلك البوابة.
وفي طيات بشاعة الموت يكمن خيرٌ كثير، فهو السبيل الوحيد لنرى أحبابنا ممن سبقونا وقضوا، وهو السبيل الوحيد لنعلم الحقيقة الكاملة حول مكاننا في حياتنا الآخرة ولنعيم المتنعمين، وحين نعدّ أهم أحداث حياتنا، يغيب عنا أن نذكر أن أهمّها سيكون بعد بوابة الموت وليس قبلها، لكننا نغتر بآثارٍ تبقى لنا في الزمن الفاني وتفنى عنّا تلك الآثار بالزمن الباقي. (من أقوال سعيد النورسي).
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم
bosleah@

Sunday, January 6, 2013

زُقاق أبو حيان

حين أحدث الآخرين ، أتلصص على عقولهم ، ويستهويني التجوّل فيها، والتنّزه في أزقتها ، و لثقة أصحابي بي ، تفتح لي أبوابٍ عقولهم المحكمة ، وترفع أبواب قلاع عقولهم الحديدية، فأتجول في ذلك الزقاق ، كما أتجول في زقاق مدينة قديمة ، وكأنني قد زرت النمسا ومررت بأزقة سالزبورج القديمة ، أرقب مبانيها العتيقة ، وممراتها الضيقة ، وأسأل نفسي عن عمر تلك الدكاكين ، وأتسائل عن من عاش فيها ، وأتوقف ألحظ صورة علّقها دكان بالسوق، يظهر منها أنها لذات الدكان المعلقة فيه ، وفيها ذات البضاعة ، لكنها بالأبيض والأسود ، وفي هذه الصورة يظهر أشخاص كانوا في زمنٍ الكل فيه يلبس الطواقي العالية والجواكيت الطويلة يقفون بجانب ذات الدكان ، فأعلم منها أن عمرالدكان قد تجاوز ال ١٠٠ عام ، وهنا أعود أنظر لزقاق سالزبورج ، لأغيب في رحلة الزمن الماضي ، وأتوقف عند شاباً يعزف أسفل منزلٍ ولد فيه موتسارت سنة (١٧٥٦) أشهر موسيقي ذلك القرن، أستمع إلى معزوفات موتسارت قليلاً ثم أنصرف، ورغم سحر تلك المدينة بمبانيها العتيقة وبمعزوفات موتسارت الرقيقة ، إلا أن نزهة العقول تسحرني أكثر، ففي أزقتها أتمتع برذاذ مشاعر محدثي ، ولربما تزيد هذه المشاعر فتبللني أمطار عاطفته بشعور إحباط يتملّكه أو أسى يعتصره ، فأحاول أن أشاطره مشاعره ثم أغير الحديث كي لا أشعر بالإحباط أو بالأسى معه ، فعقولنا تحاكي عقول محدثنا و تفيض بذات المشاعر ، وأهرب إلى زقاق آخر ، حيث يحدّثني عن ذكرياته ، ولأن ممر الذكريات في عقولنا يغلب عليه أن يكون الأجمل ، فهو ممرنا المزيّن ، ودهاليز ذاكرتنا تغطيها الخضرة ، وتزين شرفاتها الازهار ، كما يفعل أهل سازبورج .
ومن تلك الدهاليز تتكون أعجب الشخصيات ،في سنة ( 414 هـ ) توفّي أبو حيان التوحيدي الذي قد عاش في العراق ، كان أحدى عجائب الدنيا، ملأت رأسه العلوم ، وتقاطرت من فمه قطرات الأدب ، يقول عنه صاحب كتاب " معجم الأدباء" شيخ الصوفية ، وفيلسوف الأدب ، وأديب الفلاسفة ،،، لا نظير له ، ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة ، كثير التحصيل للعلوم ... " إلا أن دهاليز عقل هذا الفيلسوف الصوفي ليست كلّها جميلة ، فهناك دهليز آخر يكشفه العالم الجليل ابن الجوزي ، فيقول أنه "زنديق" ويكشفه الذهبي الذي يصفه ب"الملحد" كما ذكره ابن حجر ب"الرجل المنحل" ، لكن زندقته وانحلاله لا يغيران من كونه عالما لم يدع علماً من علوم عصره إلا أتقنه وكتب الكثير من الكتب التي أدهشت من بعده مثل كتاب "الإمتاع والمؤانسة" والذي يحكي فيه زيارته لوزيرٍ بغدادي ، يحدثه ويؤانسه ، وكان يرجو منه أن يقربه فأظهر له علومه ، وغلّفها بالحكمة ، وجمّلها بالأدب ، لا يمكن لقارئ الكتاب إلا أن يتمتّع بقراءته ويأنس بحديث أبو حيّان ، ففيه تعظّم الأخلاق و تذم الرذيلة و تكاد تشك أنه شعراً من فصاحته .
لكنه قد عجز أن يترجم ما يقوله أو يلزم به نفسه واسمعوا لما يقول عن نفسه "ولقد اضطررت بينهم ,,, الى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة والى بيع الدين والمرؤة والى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق , والى مالا يحسن بالحر ان يرسمة بالقلم, ويطرح في قلب صاحبه الألم" .
وكأني أمشي في أزقة عقل أبوحيان ، وأرى خصومة سكانها ، ففي زقاق العلم ، علقت لوحات كتب بها أن الرزاق هو الله ولو تبق آية في كتاب أو حديث أو حكمة إلا وقد علمها هذا الزقاق ، فسطرت في كتبه ونطق بها لسانه ، إلا أنه حين تضيق الدنيا عليه ، نجد أزقة العمل في عقل أبو حيان ، تخالف أزقة العلم أشد المخالفة ، وكأن الزقاقين قد تخاصما ( العلم والعمل ) ، فقليل من الإيمان كفيل أن يجعل يديه ترتفعان ويسأل الله الرزق ، وقليل من الإيمان وبعضاً مما يعلم كفيل أن لا يبيع الدين بالدنيا فهي خسارة الآخرة ، التي يبيعها ، وخسارة الدنيا لأن الله هو الموفّق فيها ، ولذا رغم كل نفاقه وبيع دينه ليشتري دنياه ، إلا أن ذلك لم يصلح له حاله ، فقد قتل هذا الوزير بعد فترة من لقاء أبا حيان ، ولما انقلبت بأبو حيّان الأيام رأى أن علمه و كتبه لم ينفعانه وبخل بهم على من لا يعرف قدرهم، فجمعهم وأحرقهم، ولو أنه أعمل الصبر وحسن ظنه بربه ، كما يعملهما على لسانه لأصلح الله له شأنه ، ولذا كلّما تجوّلت في عقول مزينة بالحكمة والفصاحة بحثت فيها عن خصومة أزقّة أبو حيّان.


عبد الله عبد اللطيف الإبراهيم
bosleah@