Sunday, June 30, 2013

أحجيات أبي




قبل أيام , توفي من كان يرعاني كل يوم , ويقف بجانبي في كل أزمة ، ويسأل عني في كل مجلس  , فحملته عاليا وأخذته بعيدا وحفرت له عميقا وتركته وحيدا  فشعرت باليتم وأنا كبير





حينما كنت صبياً  صغيرا أخرج عن حدود الأدب ، كان أبي يُؤدبني ، وبعدها يسألني هل تسامحني ؟ولأني صغير لذلك لم أفهم مقصده  وظننتها أحجية ,  وفي يوم من الأيام أخذني أبي بسيارته من المدرسة  وعند باب بيتنا أخرجت قطعة الحلوى التي خبأتها في حقيبتي لآكلها , فأخذها أبي  من يدي وأعطاها عامل النظافة الذي ينظر إليها بشغف فلم أعلم مقصوده وظننتها أحجية , وحين صرت شابا يافعاً  لم أجد تبريرا  لفرط طيبه مع يسيء إليه  ،  فبائعه الذي طمع وزاد عليه السعر قال له أبي : كم تريد زيادة لترضى ثم أعطاه  ، وحين سألته  كيف تقبل بأن يرفع عليك السعر ؟ قال رحمه الله : " لحية المغلوب بالجنة " ولأنني كنت حينها قد كبرت سألته عنها  فقال : يابني : كن مغلوباً ولا تكن غالبا , فالدنيا ليست بأمر يحرص عليه العاقل .


ومع مرور الأيام علمت أن أبي يخفي في أحجياته حكمته ففطنت لها  ، وفي أحد المناسبات التي تغيب عنا أشخاص دعيناهم , سمعته يقول لنا " الكل مشغول  والكل معذور " واليوم علمت منها سر صفاء صدره وطيب نفسه ودوام ابتهاجه


قبل أكثر من شهر اشتد مرضه , ودخلت حجرته  التي  تملؤها الكتب  محاولا إقناعه بعملية جراحية , فحدثني حديث المفارق لي - وقد كتبت هذا المقال بعد ذلك الحوارلإحساسي برحيله -  حدثني حديث الملاقي لربه ، يقول لي و في مريئه ورمٌ لا يرجى شفاؤه ، يمنع لقماته ويخنق أنفاسه  ويسرق صوته  : أنا في نعيم لا يعلم فيه الا الله ، أبهرتني كلماته ففقدت كلماتي لأعلّق ، وحاصرتني مشاعري فلم أجد ما أقول ، فاكتفيت بأن تبسمت ، وسألني مالك تتبسم فقلت له : أنت في مرض وضعف وهزال وتقول أنا في نعمة لا يعلمها أحد ! .   نظر إلي متأنيا وقال لي : لولا أن أفضح نفسي لتكلمت ، خنقتني عبرتي ، لكني علمت إنه لديه ما يود الحديث عنه ، فضبطت مشاعري وضغطت على ألفاظي  وقلت له مستحثا :  اما بنعمة ربك فحدث !


طأطأ رأسه وقال ونعما بالله ، ثم قال بصوت أجش متقطّع  ( بسبب مرضه ) لقد عشت خالي من الهموم  سنين طويلة ، هل في هذه الدنيا أكبر من هذه النعمة ؟ ولقد أعطاني الله كل شي طلبته  وكل شي لم أطلبه ، لم أكن أتصور أن ابلغ عمري هذا دون أن احتاج أحد ودون سؤال أحد ( لم يكن رحمه الله يسأل الناس حاجة قط ولا حتى أولاده ) ، حدثني وعيونه تتلألأ شوقاً لربه ، وقلبه الضعيف يخفق رغبة بلقاءة ، لم يكترث بمرضه أو بتدهور صحته فهو غنيمة كبيرة لتكفير خطاياه التي لا يمكن لمثلي أن يراها، حدثته عن مرضه وأنا أراه حفرة أخاف عليه أن يقع فيها و حدثني عن مرضه وهو يراه عتبة يرقاها لترتفع يده وتتمكن من طرق باب ربه الكريم ليفتح له باب رحمته، حدثته لإجراء عملية جراحية وقلبي يتقطع على صحته وضعف جسده وحدثني حديث من لا يكترث لجسده ويظنه ثوب كلما اهترء كلما قرب استبداله .


أصررت عليه كثيرا  ,,, وبعد إلحاحي ,,, أطرق  قليلا في لحظة صمت وقال لي : عبدالله ،  مم تخشى علي ؟  أبهرني سؤاله ولم أستطع أن أذكر الإجابة ففاجأني بقوله :هل هناك  أكثر من الموت ؟




Thursday, June 20, 2013

طريق الله الواسع

 الله هو الذي خلقنا وأمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون، نحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين.
------------------------------------

عندما كنّا صغارا، كان الأهل يستخدمون بعض الصور ليغرسوها في مخيلتنا لإخافتنا من بعض الأمور التي تضرّنا والأمثلة كثيرة، لكننا كبرنا وصغرت تلك الصور، فلم يعد لها تأثير، لكن عقولنا محشوّة بكثير من الصور التي لا دخل لأهلنا بغرسها، فمنّا من يظن أن الدين حديقة غنّاء وشجر، وبعضنا يحسبه شباكا وحفرا، بعضنا يهرب من الالتزام الديني كذبابة دخلت بين أشجار نسجت عليها العناكب شباكها، لا تكاد تبتعد عن شبكة حتى تلاقي شجرة أخرى تماثلها، تدور تبحث عن مخرج، فأوامر الدين - كما يرونها - كثيرة لا يتسع وقتهم لتأديتها، ونواهيه متنوعة لا يمكن التعايش معها بسعادة، فلذلك هم يستبدلون كثيرا من الالتفاف حول أوامر الدين ونواهيه باختراقها جميعا، والتحوّل من ذبابة تعلق بالشباك إلى زنبور - دبّور - يخترقها ولا يبالي.
لكن تصوّرنا للدين بشباك العنكبوت - رغم كل سماحته - ليس وليد الصدفة، بل هو مجهود جبار يرجع الجهد الاكبر فيه للشيطان، فبحكم خبرته القديمة بالبشر، فهو يعرف كيف يرسم تلك الصورة في عقولنا ليخرجنا من فئة من قد عمل «عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (التوبة: 102)، لنكون من الذين يقولون حين تتوفاهم الملائكة «رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين» (المنافقون: 10)، ولان الشيطان يعرف تماماً ما هو الفارق بينهما، لذلك غرس تلك الصورة التي في مخيلتنا لتكون أوامر الدين ونواهيه مثل شباك العنكبوت، وساهمت في تحوّلنا إلى زنابير تتعدى محميات الله من دون اكتراث.
ولأن الطريق الى الله واسع، فهو يسعنا بذنوبنا وتقصيرنا وزلاتنا وأهوائنا ووسوسة شياطيننا، نحملها معنا ونسير فيه مثقلين ــ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنا ــ ونحاول أن نتقدم، فالذي قد خلقنا هو ذاته الذي أمرنا ونهانا، وهو أعلم بسعادتنا أين تكون،، ولربما كان اختباره لنا بتضحيتنا له، فنحن نحرص على سعادة دارنا الأولى، وهو يريد لنا السعادتين، فنحن نقول «صراط الذين أنعمت عليهم»، ولا نقول صراط الذي أنعمت عليه، والفارق أن الطرق للرحمن كثيرة، كما أن الذين أنعم الله عليهم كثر، مثل أبواب جنته واسعة ومختلفة، وليست بابا واحدا، بل الطرق اليه واسعة، ولها هامشان، هامش على اليمين، به تكون النوافل والسير فيها الى الله أسرع وأقرب الى مرضاته، وهامش يسار يسعنا إن أخطأنا وزللنا ووقعنا في الحرام، فنحن لم نخرج عن الطريق، لأننا لم نزل نسير إلى الله، وكل ما يلزمنا هو أن نعوّض هامشنا اليساري من هامشنا اليميني، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: «وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (هود: 114). قال الرجل: يا رسُول الله ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلِّهم.
فلا يلزمنا أن نكون ملائكة لنكون في الهامش اليميني، ولا يعني وطئنا للهامش اليساري أننا شياطين، ومن استطاع أن يلزم هامش اليمين، فإما بمعونة الله وهو ذو حظ عظيم، أو أنه أثقل على نفسه غافلاً أن الطريق إلى الله طويل.
والمؤمن لم يؤمر بما يشق عليه، بل أمر بما يستطيعه فقط، يقول صلى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه: «ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».. وقد أورد صحيح الجامع الصغير حديثاً حسناً يقول فيه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ صاحبَ الشمالِ - الملك الذي يكتب السيئات - ليرفعُ القلمَ ستّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئِ، فإن ندِم واستغفر اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدةٌ».
عبدالله عبداللطيف الابراهيم
http://www.alqabas.com.kw/node/774682