Monday, February 25, 2013

مائدة عشائي


حين نذهب الى المطعم، ألاطف من يخدمني وأمازحه، وعلى الرغم من أنني قد سئمت من التكرار، فان مفعول تلك المزحات السحري يجعلني أكررها، فحين يستأذنوني لرفع صحني الفارغ، أشير باصبعي مبتسما الى قطعة يتيمة من الخس في صحني الفارغ تماما وأطلب منه أن يجعلها في عبوة مخصصة لأخذها معي المنزل، وحين ينظر الى وجهي مستغرباً من طلبي السخيف، يشاهد ابتسامتي ويعلم ممازحتي فينفجر من الضحك، فلا يعقل أن يضعها في عبوة!
وعلى الرغم من أن دافعي هو شفقتي لكثرة تلقيهم الأوامر العسكرية وزجرهم حين التأخر في الطلبات، فان السبب الأكبر هو حصولي على خدمة أفضل وعناية أكبر، فكلمتا ملاطفة خيرٌ من أوقيتي ذهب تدفع كبقشيش.
رغم أن ما أفعله هو نتيجة تجربتي الشخصية، فان تفسير قبولهم لملاطفتي وترحيبهم بي في الزيارات اللاحقة، تفسّره نظرية تبادل المنافع الاجتماعية (Social Exchange Theory) انها تجيب عن التساؤل: لمَ نقبل تكوين علاقات اجتماعية مع البعض ونرفضها مع الآخرين؟ فهذه النظرية تفترض أن العلاقات لا تنشأ الا اذا كان العائد من تلك العلاقة أكبر، وبالتالي فان العائد على أي علاقة اجتماعية بيني وبين من يخدمني هو عائد أكبر بالنسبة له ولذا لا يرفضها، ولكن التساؤل المنطقي هو: كيف يمكن لغيرنا أن ينظروا الى علاقتنا على أن عائدها مرتفع؟
ان عقولنا تلتقط الكثير من الاشارات من الآخرين (علم النفس الاجتماعي)، وهذه الاشارات تشمل أقوالهم وأفعالهم وطريقة لبسهم، والكثير من الاشارات يتم التقاطها والتعامل معها بلا وعي في العقل الباطن، وتعطى وزنا نسبيا في عقولنا، فعلى سبيل المثال: حين نقابل شخصا يتحدّث عن مكارم الأخلاق، فبكل تأكيد اننا سنصنف هذا الشخص ونقول انه شخص يسعى للخير، لكن تأكيد أفعاله على ما يقول سيكون هو ذا الوزن الأعلى لنقتنع، ويكون حديثه ذا تأثير بسيط وبانتظار تأكيد أفعاله، وهذه طبيعة عمل جزء من عقولنا التي تعمل في الخلفية وتهيمن على الموافقة على العلاقات الاجتماعية، ولربما كانت اشارات العقل الملتقطة تتعارض، وبالتالي سترفض عقولنا العلاقة لأنها مشوشة أو غير واضحة المعالم، ولا ننسى أن طبيعة عقل المتلقّي (من نرغب في انشاء علاقة صداقة معه) تساهم في تحديد قيمة العلاقة الاجتماعية طبقاً لاهتماماته وما سبق تعريفه لعقله على أنه مهم، ففي مثالي السابق، فالمستمع لمكارم الأخلاق قد يكون مهتما بالحصول على الأموال دون أي اكتراث بأي الطرق حصل عليها، ومثل هذا الشخص لن يطربه أي حديث عن الأخلاق ولن يهتم بمتحدّثه لكنه سيهتم جداً لو تحدّث عن ربحٍ سريع تحقق، فتراه يتقرب اليه لظنه بأن عائد التقرب اليه كبير.
وعلى الرغم من أن علاقتي بمن يخدمني بالمطعم عائدها المتصوّر يعد كبيراً لمن يخدمني، الا ان عائدها لي أيضاً مرتفع، فطالماً حصلت على معاملة أفضل وخصومات، والعديد العديد من الأطباق المجانية المزينة بابتساماتهم الصادقة.
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم
boslaeh@

Tuesday, February 12, 2013

بوابة العظيم




في زمن موسى - عليه السلام - كان البشر يجالسون الملائكة، كما ذكر بنو إسرائيل ونقلتها كتب علمائنا، الذين حدثوا عن بني اسرائيل من دون حرج، تنفيذا لكلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - و كان لمَلَك الموت رجل يجالسه من بني اسرائيل، يحدثه ويسامره، وفي تلك الأيام قال صديقه من الإنس: إن زيارتك تخلع لي قلبي، فكلما زرتني شككت في سبب زيارتك لي وأخشى أن تأتيني قابضاً لروحي لا قابضاً لحديثي، فضحك ملك الموت منه، واشترط عليه صاحبه أن يرسل له ملك الموت رسولاً، يمهد لزيارته ويخبره أنه سيقبض منه روحه، فوافق المَلَك، واستمر بعدها يزوره الملك لسنين طويلة، حتى كبر الرجل واحدودب ظهره، وفي مساء أحد الأيام طرق الباب ملك الموت فأدخله فلم يدخل، فقال له: إنني قد أتيتك اليوم قابضاً، فقال له صاحبه: وأين رسولك لي الذي أرسلته؟ فأجاب ملك الموت : ألم تر تجعد جلد وجهك وحدبة ظهرك والشيب في رأسك؟ أليسوا رسل ربك بقرب موتك؟! وقبض روحه بعدها.
«إن زيارة الموت لبيت - حتما - ستكون فاجعة وأمراً عظيماً، إلا أنها بوابة عظيمة نخرج منها من قوانين هذا الكويكب، الذي نعيش عليه بصفة مؤقتة، ويحكمنا قانون حرية الاختيار الزائل، وتنتهي بعد عبور بوابة الموت إلى قوانين اختبارنا الاستثنائية لننتقل الى القوانين تحكم فيها باقي المخلوقات، إنها قوانين الله السرمدية الأزلية التي ليس فيها اختيار، بل هو السمع والطاعة، وكأني أرى لوحة علّقت على هذا الكويكب الصغير «مكان مخصص للاختبار»، يقول جل من قائل: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا»، فحريتنا هي استثناء من قانون الطاعة «إئتيا طوعاً أو كرها»، لكن اختبارنا هو في الاتباع من دون اخضاع، فأعلمنا وأخبرنا بما سيكون بعد بوابة الموت وترك لنا القرار، لكن هذه الحقيقة البسيطة تحتاج منا الى أن نبني جسوراً من الإيمان فوق بحور من الشك لنصل بها إلى أرض الحقيقة، التي إن وَطِئْناها علمنا أن حياتنا هذه إنما هي ليلة صيفية قصيرة من سني حياتنا الطويلة بعد تلك البوابة.
وفي طيات بشاعة الموت يكمن خيرٌ كثير، فهو السبيل الوحيد لنرى أحبابنا ممن سبقونا وقضوا، وهو السبيل الوحيد لنعلم الحقيقة الكاملة حول مكاننا في حياتنا الآخرة ولنعيم المتنعمين، وحين نعدّ أهم أحداث حياتنا، يغيب عنا أن نذكر أن أهمّها سيكون بعد بوابة الموت وليس قبلها، لكننا نغتر بآثارٍ تبقى لنا في الزمن الفاني وتفنى عنّا تلك الآثار بالزمن الباقي. (من أقوال سعيد النورسي).
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم
bosleah@