Saturday, June 16, 2012

ليست المدرسة ٢/٢


تحدثت في المقال السابق كيف كان الشارع يساهم في البناء التربوي ، وكيف تعقّدت العملية التربوية بزيادة مسؤولية الوالدين لبناء الجوانب الاجتماعية والأخلاقية  وأصبحت رحلة التعليم هي رحلة الألف ميل ، وهذه الرحلة  تبدأ بالمستوى الأول من التعلم في  شهور الطفل الأولى ، ولربما وهو في بطن أمه ، فقد قام دكتور بتجربة مثيرة ، وهي بالغناء المتواصل أثناء حمل زوجته  , وبعد شهرين من الولادة وفي حضور أصحابة غنّى لطفلة مجموعة من الأغاني  وكان الطفل مندمجاً، وحين غنّى له إغنيته اللتي كان يرددها في آخر أشهر الحمل ، توقف الطفل عن الإندماج ، وتوسعت حدقت عينيه  وكأنه يتذكّر ، أو يسأل نفسه أين سمعت هذه الأغنية ؟
ومن تلك الفترة تبدأ العملية التعليمية ، وفي أشهر الطفل الأولي  يقوم بمحاولة (حفظ)  أومحاكاة ما نقول و نفعل ، ويكون هذا الطفل قد تجاوز المستوى الأول للتعليم ، وحين نحاول جعله يفهم ما يدور حوله ، ونشرح له  كيف تعمل الأشياء التي يشاهدها من هواتف أو أجهزة وخلافه ،  فإن الطفل يرقى الى المستوى الثاني من التعلّم ( الفهم ) ، وإذا ما نجح في تطبيق فهمه السابق في التعامل مع أمر جديد كأن يتحكم في التلفاز بالمقارنه بما تعلّم سابقاً ودون أن يعلّمه أحد ، فتأكد أنه قد ارتقى المستوى الثالث ( التطبيق )  ، وبعد أن يكبر هذا الصغير ، و يتعلم ( التحليل ) ، وحين يستخدم ما يشاهده للوصول الى معلومات مخفية عنه بواسطة المقارنة والتدقيق ، سيرى الطفل أن والده  قد تغيرت تصرفاته تجاهه ، فيكتشف أنه متضايق  ، فإن هذه المرحلة دلالة على  ارتقاء الهرم المعرفي للأبناء ، لكنه وبكل تأكيد فإن هذا الطفل سيكون قادراً على( الإبداع و التقييم ) وهما المستويين المتبقيين من هرم بولم  (  ١٩١٣ـ-١٩٩٩) .
 لا شك أنه يصعب على الطفل فهم أمور الحياة بمفرده ، ولذا يكون دورنا هو " تبسيطها لأفهامهم " ، وهذا يتطلب اقتناص الأوقات المناسبة للتعليم ، ولتحقيق التقدم يجب أن تكون الأوقات التعليمية مناسبة لهم وليست لنا، فحين  نعلمهم فضل الأمانه ( الفهم ) ،  فقد يتأخرون في رد مال غيرهم ، فهنا نقول : إن الامانة درجات ( التطبيق ) ، و أقل هذه الدرجات أن ترجع المال المتبقي لغيرك بعد أيام ، فتبقى أنت أمين ولكنك في أسفل منازل الأمانه، واما أعلاها فهو أن لا تحدث نفسك  بهذا المال حين ترجعه بأسرع وقت .
 وحين يرى الأبناء تلك المنازل العالية من الأخلاق ، فإن الصعود لها يكون بدافعٍ وعزيمةٍ أقوى ، وبكل تأكيد ، فإنهم سيرون عناء الحرص على الامانة وأعلى مقاماتها هو مضيعة جهد لأننا لم نبينها لهم ، ويمتد دورنا إلى اكتشاف أخطائهم ، فحين يعرج ابننا ، فإن التركيز وتقوية ساقه السليمة لن يصنعه عدّاء ، فبعد اكتشاف الخطأ ، يتوجب التركيز على خطأه ، ومثال ذلك  أن نرى منهم خوفاً من مواجهة من هم في أعمارهم حين يكون الحق معهم ، فينصرفون عنه خوفا من المواجهة ، فنراقبهم ، ونشجهم على أن لا يتنازلوا عن حقوقهم حتى يواجهوا ضعفهم وينتصروا عليه ، لنجعل منهم أقوياء  بلا ضعف ، تمهيداً ليومٍ  تطرحهم فيه الليالي والأيام أرضاً ، وبلا أب أو أم  يسندهم ، فإن لم نصلح لهم عرجتهم ، أدركتهم صروف الزمان ثم افترستهم لأن من كان يجب عليه أن يصلح عرجتهم قد عضد لهم زمناً ، ثم غاب عنهم .


عبدالله عبداللطيف الابراهيم

ليست المدرسة ٢/١



ذكر روبرت ليسي مؤلف كتاب المملكةنقلاً عن الكولونيل ديكسون ( المعتمد البريطاني في الكويت ) أنه قدّر في ثلاثينياتالقرن الماضي أن ربع من يسكنون في البوادي المحيطة بالكويت ، كانوا يعيشون علىالنوق فقط ، وربع آخر يعيشون على الحليب والتمر فقط ، بينما النصف المتبقي يعيشعلى التمر والحليب والخبز ، ولم يكن حال أهل الضواحي أسعد حظاً من البوادي ، فأهلالبحر كانوا يغيبون في موسم الغوص أربعة شهور ، ليحيوا حياة الكفاف ، وقد يعاودونالغوص في مواسم أخرى مثل موسم الخانجية أو الردة ، لكن بيوتهم الصغيرة نهاراًوالمظلمة ليلاً هي كبيرة بنفوسهم العظيمة ومضيئة بحبهم لبعضهم البعض  ، وحين يخرج الصغار الى الفضاء الواسع (شوارعالحي) تكون لهم الملعب  والمقهى  والتلفاز ، وفي  زاوية الطريق تعقد نشاطات النادي الاجتماعيلأبناء الحي , ولا يشترط الزي الرسمي لحضور مناسباته ، وبعض البقع الصغيرة  ( بحجم كف اليد ) على الثياب أمرٌ مقبولٌ ومتجاوزاًعنه ، ولربما كانت البقعة برهان هذا الصغير على أنهم أكلوا الدجاج المحبب والنادرفيقرب ثيابه ليشتمها (ليشمها) أقرانه ، والجميع بثيابهم علل ، فهذا مرقوع ، وذاك متسخ ، وهذا يلبس ثوب أخيه أو أبيه والأمرفيه سعه، وبالرغم من ضيق الحال ، فأن هذه الشوارع غنية بالقيم ، ففيها تدرَّسالشجاعة ، ويذم الانهزام  في العراك  ، وفيها يدرَّس الصدق ، فالكاذب مهجورومنبوذ ، وفيها يمارس الاحترام ، حيث يطرد من لا يجل الكبير ، ويتزعّمذلك من  يملك صك الزاوية أو ظل تلك الشجرة.
لكن خروج أبنائنا الى الطريق ( اليوم )هو  تذكرة ذهاب وإقامة في السجنالمركزي ، فمن يطلق لابنه العنان بلا رقابة ، فقد يترك الصالحين  و يصاحب مدمناً أو منحطاً ، ثم يتخرج مجرماًفاحشاً وفاشلاً بلا أخلاق ، وهذا يزيد مسؤولية البيت  لبناء التربية الأخلاقية والاجتماعية حيث غاب الشارعالذي كان يبني جانبا من أخلاق الطفل و من شخصيته الاجتماعية وهو ما  أثقل كاهل المنزل  و الأهل .
ومن المضحك المبكي أن ترى من يختصرالتعليم الشاق المرهق ويظن أن الطفل هو دميته التي  هي للممازحة أو ساعة راحته التي هي  للاسترخاء ،  فيبقى ابنه خالياً من المهارات ، وإذا ما أرادأن يعلم طفله فنون الحياة اختصرها بقوله "خلك رجال  " ثم ينتهيدوره بعدها ، و إذا ما كبرالصغير  يختصرتعليم فترة الشباب بقوله "إقعد عدل " أو " قبل رأس عمك "متجاهلا دوره العظيم ، لكن المبكي هنا ، أن هذا الصغير قد لا يحسن صنع شيء لأنه لاأحد يعلمه شيئا ، فلم يرفع المطرقة ، ولم يغل الشاي ، أو أنها لم تغسل الصحون ،فإذا ما دارت رحى السنين وكبروا واضطروا لإطعام أنفسهم ، فإنهم سيشقون شقاء من كان يبحث ويحاول إكتشاف العجلةولنتصور كيف حياته قبلها، لكن الاولاد الذين قد تعلموا كيف تعمل العجلة سابقا،ستحملهم الى أمانيهم لاحقا.


ملاحظة : في الجزء الثاني ، سأتعرض  للتعليم أثناء الحمل ومابعده ودورنا فيه
عبدالله عبداللطيف الابراهيم



Tuesday, June 12, 2012

درج الاّ منطق


في دهاليز عقل الأنثى ، تختبأ منطقة ال"لا منطق" ، رغم أن الرجال يحبون المغامرة ، الا أنهم في أدغالها يتيهون ،  وفي أعماقها يغرقون ، يعصى على الحكماء فهمها ، وعلى العقلاء سبرها ، إنها فيلم ثلاثي الأبعاد ، رغم جمال الفيلم وإتقانه  لن تحتاج نظّارة لتشاهده ، بل هي جيناتها الأنثوية .
ففي صغرها وكلما أوت الفتاة فراشها ، تسقي فيض مشاعرها هذه المنطقة من عقلها لتنمو وتكبر أشجارها حتى تغدو جنتها، إنها حلمٌ يقظوي غريب ، تصنعه في طفولتها ،  لكن مصاعب الحياة تصهره فيصغر حلمها من جنة غناء ، حتى تتحول  الى درجٍ من أدراج عقلها ، تجمع فيه من كل لحظة سعيدة عاشتها قطعة من ذكرى  ، وحين تفتحه تستعيد  براءة طفولتها وتشاهد فيه دميتها التي تحبها  ، وتمزج  فيه أطيب عطورها وأقدمها،  وفيه  تستودع طموحها ، فيمتزج واقعها بأحلامها ، لكنه يبقى درج في عقلها ، تهرع إليه حين تدور رحى السنين وتعتصرها الايام ، تغلق غرفتها وتفتح درجها ، فتعيش في جنتها وتنظر دميتها وتتذكر أمنيتها ، ثم تبكي ....
حين تأتي الأزمات ، وفي تلك اللحظات العصيبة  تكون الأنثى أماً ، أو زوجةً ، أو تكون فتاة ، أحبطها الواقع ، وآلامتها الأحوال ، فتخرج من غمد عيونها دمعها ، فهي سلاحها الانجع  في الأيام الضارية ، وحين تبكي  تتذكر مرجاً أخضر طالما افترشته في طفولتها ، ولأنها في ضيق وحزن ، تجد كل السعادة حين تفتح هذا الدرج ، وتحضن دميتها ، وتشتم عطرها ، وتشتاق أمانيها التي قطعتها الأيام ، ومزقتها الليالي ، فيشتد بكائها لكنها تتمتع !
يقول شكسبير:" إن محاولة التفاهم مع الأنثى وهي تبكي يشبه تقليبك لأوراق الجريدة وسط العاصفة ، فقط إحتضنهآ وسوف تهدأ" ، وبالفعل فحين تجد بكائها ، وتحاول أن تهدّئها لن تستطيع أن تقرأ من أفكارها كلمة ، ولن تستطيع أن تفهم من أقوالها موضوع ، إنه درج ال"لا منطق " قد فتح  ، فهي تعيش في حلمها اليقظوي ، تمتزج فيه أحلام  طفولتها ، و تتقاطع  فيه أمنياتها مع واقع يضغط عليها ، وطموحٍ يتلاشى ، لا تحاول أن تتناقش معها، أو تشرح لها ، لا تحاول أن تجري حواراً أجوف ، لكنك إن أردت مساعدتها لتخرجها من ضيقها ، أعد إليها شيئا من درجها ، أو أرجع لها أمنياتها التي ضيعتها ، وأن عجزت  ، فقدم لها العزاء بما ضاع ولو بحضنة .




عبدالله عبداللطيف الابراهيم