Friday, December 21, 2012

أمنية محب


ليس في كويتنا جبال الألب الشاهقة، أو شلالات نياغرا العظيمة، ليس فيها سفوح باڤاريا الخضراء، أو ريف الريفيرا الساحر، ولا يشابه صيفنا صيف كاليفورنيا المعتدل، ولا شتاؤنا هو شتاء هاواي الدافئ، ولكننا في الكويت نجد أناساً طيبين نعيش معهم، نحبهم ويحبّوننا، وبلداً غير مكلف، نستمتع فيه بالمواطنة أو الإقامة دون سياط الضرائب، وأبسط مثال على ذلك، أنك تركن سيارتك بمائة فلس لمدة ساعة في المواقف العامة وسط العاصمة، بينما تدفع دينارين في فانكوفر الكندية، و3 دنانير في باريس، و7 دنانير في شيكاغو لساعة وقوف. ونشتري من أسواقنا المركزية زجاجة الماء الكبيرة بـ 150 فلساً (نصف دولار)، بينما نجدها في رف محطات الوقود النمساوية بدينارين. ولا تنس أنك تدفع هنا عشر ثمن الوقود هناك، ولن تزيد فاتورتنا في أرقى مطعم سمك لدينا على 20 ديناراً، ولكننا قد ندفع 60 ديناراً من أجل جلسة في مطعم أوروبي نقوم منه جوعى. ويبقى لنا الخيار بأن نحصل على طبق سمك شهي مقابل دينارين في الكويت، ولكن بجلسة وديكورات متواضعة. 
وفي كويتنا الغالية، لن تضطر إلى أن تنظف منزلك بنفسك كما يفعل الأثرياء الأوروبيون والأميركيون، فعاملة تنظيف المنزل لديهم يكلّف عملها لثماني ساعات 800 دولار، بينما عندنا أجرتها اليومية تقارب الدينارين. نعم، إن الكويت تعجبني، وقد يغيب بعض إعجابي حين أقارنها بما هي أفضل منها في أمور أخرى، ولكني إن رأيت شيئاً لا يسرني فيها أعود لأتذكرها وقد احترقت بعد الغزو الغاشم، وتطايرت أدخنة حرق آبارها وملأت أنفي غازات هذه الآبار وتلوثت ثيابي بالبقع النفطية، وتدمرت بنيتها التحتية، وخلت أرفف أسواقها، وقلّت سياراتها، وكأننا في مدينة مهجورة. وحين أتذكرها في تلك الحالة وأقارنها بما آلت إليه اليوم يرجع إعجابي بها دون منغصات، فتعود وتعجبني بزحمة سيرها، وعدم احترام قوانينها، وإهمال بعض موظفيها، وحين أبدأ أحدّث نفسي بالكثير من الأمنيات أحرص على ألا تطول فترة تفكيري في هذه الأمنيات، فالنّعم التي منّ الله بها على هذا البلد لا يمكن أن تحصى، والتفكير فيما ينقص بلادي سيمنعني من الاستمتاع بها، فالسعادة عندي تبدأ في التفريق بين ما هو عندي وما أتمنّاه، فالتفريق بينهما يبقيني بعيداً عن التعاسة، فالله سبحانه أعطاني الكثير وحرمني من الكثير، وأعطيته هي الواقع الذي أعيشه وأستمتع به وهو وطني كما أحيا فيه الآن، وما أتمناه هو ما لم يشأ سبحانه أن يعطيني إياه، وإن كان ممكن الحدوث، فأطلبه وأتمنّاه، ولكنني لن أعيش فكرة الحصول عليه أو أظل أفكّر فيه، فمن دفتر ملاحظاتي، كتلميذ للحياة، وجدت أن كل من يخلط بين ما يملك وبين ما يتمنى، يكون قليل السعادة، عسير الابتسامة، دائم الانزعاج، فهو يحاول أن يعيش الأمنيات التي يجد فيها تمام رغبته، ولكنه ينسى أن الكمال مستحيل، ولا وجود له، فهو كمن يحلّق بمركبة أمنياته كل يوم ليرحل بعيداً عن واقعه الذي لا يعجبه، فكلما رحل بعيداً بأمنياته كان تحطم مركبته أشد على أرض الواقع، بينما يكون الآخر كمن هو واقف على أرضه في مأمن من التحطّم. 
وبين عناوين الصحف، وجدت بعض الأماني تتحقق، فمجلس الوزراء قد رفع قطعة الرخام التي يخبئ أسفلها الملايين ليبني جسر جابر. وعلى الرغم من سعادتي بالجسر، فإن ذلك الخبر ليس في أولوياتي، فأمنياتي للكويت تبدأ بالمهم ثم الأقل أهمية. ولو خيرت بين هذا الجسر ومنع التدخين في الأماكن المغلقة، لكان صوتي مع منع التدخين أولاً. فلست أنا من يحزن إن سبقنا غيرنا بجسر أطول أو عمارة أعلى، ولكنني أحزن أن يمنع التدخين في حدائق نيويورك العامة وشواطئها ويدخّن السيجار الكوبي الكريه في أماكن وطني المغلقة، وتحت سقف واحد مع أبنائنا، دون أن تكون هناك وسيلة أو آلية تمنع المدخنين الإضرار بأولادنا، فالمال يجب أن يحسن توجيهه في بناء البشر قبل الحجر، وفي العناية بصحتنا بدلاً من أن نبني المستشفيات لنعالج ما يمكن تلافي مخاطره.
عبدالله عبداللطيف الإبراهيم 
bosleah@

Sunday, November 4, 2012

شكراً لعطفك يا وطن



شكراً لعطفك يا وطن

عادة لا أكتب في السياسة ولكني لن أبخل على وطني بقلمي ، وأن كنت أعلم أن قلمي لن يستر جسد وطني العاري ، فقد تنازعنا ثوبه وانقسمنا قسمين ،و كل منا قد وقف يجذبه باتجاهه ، ونسينا أن هذا الوطن يقف عاريا وهذا ثوبه الذي قد ستر عورته وهو ماء وجهه .
وبالرغم من أنني أعلم أن أغلب من يقرأون مقالي قد اصطفوا مسبقاً إلى أحد الجانبين ( الحكومة أو المعارضة ) وبالتالي فإن القارئ سيبحث تلقائياً بين سطوري عن توجهي الشخصي في هذه الأزمة ، إلا أنني سأقطع الطريق وأخبركم أن قلمي في المنتصف ، وما أحاوله جاهداً أن أمسك موطني الذي قد آواني و احتضنني ورعاني كي لا يتقطّع بين فريقين متجاذبين ولا يشق ثوبه .
فالحل لا يكمن في الاصطفاف إلى أحد الجانبين فكلا الجانبين لديهم من الصواب الكثير ، ولكن الحل في التعقل والتدبّر لكلا الفريقين ، بأن نكشف للفريقين عواقب الأمور فكلاهما على ذات القارب ، ولا أريد من كلا الفريقين أن يقللا من وزن الآخر فيسحبا بشدّه وبعدها يتقطّع الوطن ، ولأني أريد للنقاش أن يبدأ ، للوصول إلى مصالحة دون تعطيل المصالح ودون هدر للدماء .
والسياسة هي باختصار تمثيلٌ للمصالح ، لا أقل ولا أكثر ، فهذا يمثّل مصالح فئة وهذا يمثّل مصالح فئة أخرى والكل يدّعي أنه حريصٌ على وطنه وكل يدّعي وصلاً بليلى، وفي السياسة غالباً ما تكون الأمور غير يقينية ، إلا أنني متيقّن أن وطني هو المتضرر كلا الفريقين .
وما يحصل الآن من حزم إلا طريق مختصراً للعنف ، والعنف يولّد العنف كما شاهدنا من أشقّائنا ولا العجلة لا تريد من يخترعها ، فالموازنة بين الحزم والحكمة هو الحل ولأن أزمتنا السياسية معقّدة ، فالحل البسيط باستخدام القوّة والحزم هو نوع من السذاجة ، وبأس المشورة تلك ، فالوضع السياسي معقد لدرجة ومن يريد الحل دون فهم التعقيد هو كمن قد دخل مفاعلاً نووياً ووجد سائلاً يخرج من تحت باب المفاعل ، فانخفض ووضع اصبعه وتذوقه !
وسأقف على بعض صور التعقيد السياسي ، فنحن نقع ضمن جزء من عالم يغلي فالتأثيرات للأوضاع الخارجية لا بد أن تأثر لشعب يشاهد التلفاز بمعدّل عالِ ، كما أن نسيجنا الاجتماعي يشكّل الشباب أغلب نسيجه ، وهو ذو الصوت الأعلى في تحديد نتيجة صناديق الإنتخاب ، كما أظهرت النتائج في ٢٠١٢ اللتي أظهرت تطرفاً واضحاً ضد كل ما هو توجه حكومي ( بسبب فداحة الأخطاء الحكومية وليس بسبب تنظيم صف المعارضة) وبالتالي كانت كتلة الأغلبية كبيرة بسبب إصطفاف أخطاء الحكومة الى جانب كتلة المعارضة ، ومن اطلع على سيكولوجية التفاوض ، فانه يكون في بحث نقاط التنازل من كلا الفريقين قليلاً قبل الاصطدام وسأوجه لكل منهما أسئلة ، ليعيد كل منهما احتساب معادلات قوته ، و ليعلم أنه ليس دائما على صواب ليبدأ التراجع منهما ويتنازلا وتبدأ المصالحة
وسأبدأ حديثي لمن يسحب ثوب وطني باتجاه المعارضة فأقول لا تسحب بشدة :
ألا تعلم أن الشعوب اللتي نزلت للمظاهرات، كانت تبحث عن كسرة خبز بينما نحن شبعى؟
ألا تعلم أن الشعوب اللتي تظاهرت كانت مكممة الأفواه بينما نحن نتكلم ؟
ألا تعلم أن الشعوب اللتي تظاهرت هي شعوب لم تكن تشارك السلطة بأي شكل من الأشكال ، بينما نحن نفعل ؟
ألم تعلم أن نزول الآلاف الشوارع هو دليل قوتك ؟ فلم لا تتحلى بحكمة القوي القادر وتفاوض دون استعجال قبل ان يصاب أحد أو تهدر به الدماء؟
ألا تعلم أن الصوت الواحد هو نظام جيّد للانتخابات وكلنا نعلم أنه ليس أساس المشكلة ؟ وستأتي برلمانات تغييره إن أرادت فلم الاستعجال ؟
وأقول لمن يسحب الثوب باتجاه الحكومة فأقول لا تسحب بشدة : ألم تعلم أن ما يحصل ببساطة هو امتداد لرفض الحكومة لسلطة الأغلبية؟ أوليس الأغلبية هم إختيار الشعب ؟
ألم ترى عشرات الآلاف نزلوا الشوارع ؟ ألا تظن أنها أشارة واضحة لا يجب تجاهلها ؟
ألا تعلم أن كل قرون استشعار الحكومات اللتي سقطت لم تكتشف الثورات ، فلم تراهن على قرون استشعار حكومتك ؟
ألم تعلم أن الحكومات الماضية هي المسؤولة سياسيا عن الفساد وعدم التنمية بصفتها السلطة التنفيذية؟ ألا يحق للشعب الإمتعاظ أو الغضب !؟
ألا تود كما يود كل غيور أن تعرف حقيقة الإيداعات المليونية ؟
وأسألك أخي القارئ : هل نظن أن مخرج أزمتنا هو في الاصطفاف مع أحد الفريقين والتشجيع ، فتشتد المنافسة باشتداد التشجيع ، و نتحوّل من السؤال : من الرابح ؟ الى التأكد أن الوطن هو الخاسر الأكبر! فالعاطفة واتلشجيع لمن نحب ونرغب هو تعقيد إضافي للمشكلة
بالتأكيد ان الحل هو بان نتوقف تشيجيع ونطالب الحكومة بتقديم التنازلات اللتي فيها كل الحق للمعارضة و نطالب المعارضة بان تقدم تنازلات اللتي فيها الحق للحكومة ، وحين نوقف من يحاول ان يحفر سفينتنا ستسلم ، وما أحاول الوصول إليه من هذه الأسئلة السابقة هو أن أعطي سبباً وجيهاً لكلا الطرفين ، ليرخي كل منهما ثوب وطني قليلا ويقدم تنازلات ، فيسلم ثوبنا ويستر جسدنا وننعم بالأمن ، وقد قال أهلنا قديماً " ما ينشق الثوب بين عاقل ومجنون" فالمجنون إن سحب الثوب اتجاهه أرخاه العاقل قليلاً!


كنا بأزمات وجوع
فأيقظتك منا الدموع
فخلطت لحمك في دمك
ووهبتنا نفطًا نبيع

شكرا لعطفك ياوطن

كفرنا طيبك والادب
وجمعنا الفضة والذهب
ونسينا أنهما حشاك
لكن عفوك قد غلب

شكرًا لعطفك ياوطن

عبدالله عبداللطيف الابراهيم
bosleah@

Friday, October 5, 2012

الوردة أو الحديقة


عادةً لا أتناول طول يومي أية وجبة ، لكنني آكل بإسلوب النقنقة ،  وكأنني أُدخل معدتي لقيمات بين الفينة والأخرى ، دون أن أحدث ضجة في معدتي ، ففي معدتي تنّين لا أريده أن يجوع فيستيقض من نومه فحين يجوع ، يخرج رأسه من فمي ثم ينفخ ناره فيحرق الطعام الذي أمامي - بالطبع ، أنا لست متهم بما هو يأكل فهو المتسبب - ، و حين يأتي المساء أرمي لهذا التنين مكافأته( وجبة العشاء) و هي أيضاً مكافأة صبري وحسن إدارتي لإطعام هذا التنين والعناية به ، لكني قبل أيام ، عدت إلى منزلي بعد يوم شاق ، أرهقني التعب و غلبني الجوع وتوقفت حركتي حين ارتميت على كرسي مائدتي ، هناك جلست وقد خفضت رأسي من شدة التعب ، ثم رفعته لأرمق صحناً من الخضار المقشّر و سلطة بالزيت والخل  و قدرٌ من حساءٍ ساخن  ، وبلا شعور تجاوزتهم ومددت يدي إلى طبق الدجاج لآكله على طريقة العصر الحجري ، فعقلي الذي قد علمته أن يبدأ بالسلطة قد أطفئته غريزة الجوع ، واستلم زمامه التنين الغضبان ، وبعد أن رميت له هذه القطعة ، توقّف عن نفخ ناره وعدت استلمت دفة القيادة ، فسكبت بعضا من السلطة لأكمل  بها و رفعت رأسي ، ووجدت أبنائي لم يبدؤوا بعد ، فقلت بديكتاتورية : لا تتحولوا عن السلطة وصحن الخضار حتى أأذن لكم  ، و بدافع إرضائي أولأنهم لاحضوا إرهاقي لم يحاولوا  المخالفة ، وحينما رأيتهم يأكلون  قلت لهم لأغير أجواء الجدية ، هل تذكرون قبل سنين ؟ ، لقد كنتم تأكلونه وتشعرون بطعم القاذورات بافواهكم ، فضحكوا ، واليوم أنتم تأكلون السلطة وتقولون أنها ليست كريهة ، هزّ أبنائي رأسهم وقالوا نعم ، فقلت سيأتي يوم ستتلذذون بها ، لن نسمح بعقولنا أن تسيطر علينا,  نحن من يسيطر عليها.
 واليوم وأنا أكتب مقالي عرفت ما قد ألهمني هذه العبارة ، فقد مررت سابقاً على إحدى الدراسات اللتي تبحث في منطقة دماعية اسمها "Relax Zone " أو مكان الراحة  وهذه المنطقة هي مركز موجود في الدماغ ،  تقول الدراسة إنه بمراقبة تصرفات عدد من الأشخاص وتحديد الدوافع لأفعالهم ، تبيّن أن ٩٥٪ من تصرفاتهم يمكن ربطها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في هذه المنطقة ، فهؤلاء الأشخاص قد اختلفت مناطق الراحة لديهم وكلٌ منهم يحرص أن يذهب لما يحبه، فهذا يحب الصيد وذلك يحب رفقة الأصحاب والضحك ، وذلك يشرب الخمر وذلك مدمنٌ للأسفار  ، ووجدت الدراسة أن تصرفاتهم أما أن تكون ترتيباً مباشراً ليكونوا في منطقة راحتهم في المستقبل ، أو أنهم يرفعون العوائق اللتي تمنعهم من الوصول إليها ، مثل جمع المال لها ، والقيام بالمسؤوليات اللتي على عاتقهم ليشعروا براحة البال ، إن كانوا ضمن هذه المنطقة ، وفقط ٥٪ من تصرفاتهم لا يمكن ربطها بمنطقة الراحة ، والمقصد من ذكرها هو أننا يوماً ما  قد حددنا مناطق الراحة لدينا ، لكن هذه المنطقة ستحدد ما نفعله طوال أعمارنا وتصرفاتنا ، فهل نقبل أن تسيطر علينا عقولنا ونحاول أن نبقى نكرر متعة نحن خلقناها لأنفسنا ، أم نتدخّل لنغيرها ؟
وقبل أيام علمت بدراسة أخرى حول " علم النفس في تغيير السلوك " أظهرت الدراسة أن فارق بسيط قد يحوّل الإنسان من سمين إلى نحيف  ، وهذا الفارق هو الحزم في التعامل مع الأفكار والنفس ، حيث  أن من يتناول  كميات أكبر هو الشخص الذي  يقول لنفسه دائماً "هذه آخر لقمة "، بينما الآخر يقول في نفسه " لقد إنتهيت ، سأتوقّف " ، كما تبيّن أن الحزم في التوقّف عن الطعام يساعدنا أن تكون إرادتنا أقوى بينما من يتساهل تضعف إرادته فيتساهل أكثر وهذا ينطبق على من يدمنون الجنس والخمر والمخدّرات .
لكن الموازنة بين ما يمتعنا وبين ما ينفعنا أمر محيّر ومعقد ، فالمتع لن ترفعنا في سلم البشرية ، بل هي كفيلة  بتحويلنا إلى  حيوانات بشريّة ، تكرر غرائزها و محصلة حياة الكثير من البشر ستتحول الى  تكرار لمتع يحبّها ، وإذا ما حسبنا ماذا ستضيف هذه المتع لنا ولقيمتنا ومستقبلنا ، ولا أعلم أحد رفعته متعٌ كان يفعلها ، بل هو العلم والأخلاق ، ومثل من يبقى مع ما يمتعه ويكرره بلا شعور ،  كمثل شخصٍ أعطي كوبون مجاني للتسوّق ينتهي بنهاية يومٍ معين - وهذه هي أعمارنا - وبقي في  السوق  يتسوّق  ( متعنا ) حتى طرد من السوق  ولم يحاسب ( دفع الحساب هو ما ينفعنا )  فبماذا سيخرج منه ؟ أو كمثل شخصٍ دفع رسوم الدخول لحديقة بها نهر وحيوانات أليفة  ومروج ،فأعجبته زهرة عند الباب فانخفض يشتمّها ، وبقي على بطنه حتى أغلقت ولم يحضى بما تبقى منها فالحياة بها الكثير من المتع لن نعلمها أن لم نبحث عنها ونتعلمها 
-------------------------------------------
 (  لاأدعو هنا لهجر المتع فهي ضمان استمرارنا أحياء وتبقى الحياة جميلة في عيوننا ولكنها دعوة للموازنة بين ما يمتع  وبين ما ينفع ، أو هي دعوة لاستبدال بعض متع اليوم مع متع ستمتعنا بالغد لكنّها لاتمتع اليوم   )

Friday, September 14, 2012

فراشاتنا المضيئة



قبل أكثر من ٤٠ سنة , وفي بيتا المتواضع  نشأت دون أن أجد ترفيه يقارن بترفيه اليوم ، ولأن والدي - أطال الله في عمره -  يؤمن أن النعم لا تدوم ,  وحين نكثر عليه الطلبات ، كان يقول لنا " إخشوشنوا" وكان يرى كثير من كماليات الحياة آن ذاك ليست ضرورية  ، و حين أصبحت رجلاً  ، مشيت في ممرّ سوق حيّنا، وحين رفعت رأسي أبحث عن شيئ من الحلويات أستبدل به نقودي ، لم أرى سوى أرفف خاوية ، وكأني أراها الآن أمامي  ، ممرٌ طويل خالي سوى من  كرتون الباذنجان البصراوي ، ولا أزال أتسائل لم رفعوه عالياً رغم أن أسفله خالي ، و بالرغم من قلة الطعام آن ذاك لم يرغب أحد بشرائه ، فحينها كنّا في غزو غاشم  لبلدي الحبيب ، وبعد شهور من الخوشنة علمت صدق نبيّنا صلى الله عليه وسلم وصدق أبي معه ، وأيقنت أن النعم زوّالة ، فلم يعد هناك الكثير من خيرات هذا البلد ، لكننى قد  بقيت حياً دون الحصول على كمالياتي ومنها الشيكولا ، وعلمت بعدها  أن الحياة بلا ترفيه وكماليّات ليست قبيحة كما كنت أتصوّر ، لكنّ المحزن في حينه أنني كلما حاولت الحصول على قطعة من الشيكولا الأجنبية بائت محاولاتي بالفشل ، وفي ظل الأيام العصيبة تلك ، بعيداً عن الأمن و بعيداً عن الشيكولا ، فتحت خزانةً في دارنا ، فوجدت ما أبحث عنه  بعيدًا ، وجدته بالقرب من حجرة نومي ، وحين فتحتها  تلألأت كراتين الشيكولا الفاخرة  ، وأتاني شعور وكأنني قد تهت في الصحراء وقبل أن يقتلني حرّ الشمس والجوع العطش وجدت  مصباح علاء الدين لأطلب منه القصر والجواري ، وحين سألت عن مصدره ، عرفت أن نسيبنا - جزاه الله كل خير -  قد جمعهم و غادر مشكوراً دون أن يخبرنا بهم  .
وبعدها ،  جََزَرَتْ المصائب ، و أتانا مدُّ الرخاء ، وما بقي من الخوشنة سوى القليل ، فركبت الطائرة لأرى ما فاتني من بقاع الدنيا وأنظّف بقايا رواسب الخوشنة ، وفي إحدى زياراتي لماليزيا ، ذهبت لأرى حديقة الفراشات المضيئة ، ويالها من زيارة ، إنه نهرٌ يشبه المستنقع ، تجولنا  في أنحائه بقاربٍ ضيق وفي جوًّ رطب نهشنا فيه الناموس نهشاً وكأنه لا يريد أن نستمتع برؤيا هذه الفراشات المضيئة ، وفي الظلام الدامس ، تزيّن النّهر بأضواء الفراشات ، كما تتزين شجرة عيد الميلاد ، وسحرنا بسحر الطبيعة ، فهذه مخلوقات مضيئة  تتطاير وتتحرّك ، وتملأ هذا النهر ضوءاً ، هنا تجدها متجمعة ، وهناك تراها متفرّقة ، وهذه تقف بجانبك ، وتلك تتوهّج ثم تخنس ، وحين قرأت عنهم عرفت أنّهم ينقرضون  ويتناقصون، لا لشيئ سوى التّلوّث الضوئي ، وذلك بسبب المدنيّة ، فهناك الكثير من أضواء المدينة في الليل مما يجعل حياتهم صعبة . 
واليوم وبعد مرور الكثير من  السنوات السمان ، أتذكّر الأيام والليالي العجاف في ردهات أسواقنا ، وكلما نظرت إلى فتياتنا وشبابنا أولاد السنين السمان ، أراهم قد لوّنتهم الأموال ، وزينهم الثراء ، وحملتهم العافية ، أسأل نفسي هل من الممكن أن يروا صندوق الباذنجان البصراوي  ؟هل من الممكن أن تزول النّعم ؟  هل قال لهم أبوهم "إخشوشنوا"؟ ، هل حكى لهم آبائهم عن الخوف والقتل والذل والجوع الذي قد عشناه ؟ هل أدركوا تقلّب الحياة ؟ وظللت حائراً في أسئلة عجزت عن الإجابة عليها ، فالحياة اللتي يعيشونها أرجوا أن تدوم ، لكن سنة الحياة التّغيير ، ولودامت لغيرنا ما اتصلت إلينا ، وعدت وسألت نفسي هل  سيقفون في المطابخ وتبقى أفنيتنا نظيفة إن عُدمنا الخدم ؟  أم سيكونون مثل فراشةٍ مضيئة أدركها الصباح ؟

عبدالله عبداللطيف الابراهيم
@boslaeh


Friday, August 10, 2012

سقيا الروح*



* مقال أدبي يحوي وسائل علمية وعملية للتلذذ و التغني بالقرآن.

فنُّ الحديث يحوّل الاستماع الممل الى متعة حقيقية ، وحين يروي بعض المتحدّثين أحداث حياتهم اليومية  ، يشدنا حديثهم فنصغي إلى أدق التفاصيل ، بينما يفشل البعض الآخر في الإحتفاظ باهتمامنا لدقائق ، فقدراتهم القصصية عالية ، إنهم يحبكون أحداثهم بمهارة  و يسردون تفاصيل تناسب من يجالسونهم ويهمّشون بعضها الآخر ، لكنك قد تتفاجأ بنسيجٍ آخر إن استمعت لها مرة أخرى ، وحين يقاطعهم المستمعون و تأتي التعليقات يفسحون لنا مجالاً للمشاركة ، لنعبّر عن آرائنا ويشاطروننا رأيهم، لكنهم يجيدون المداخلة والإمساك بزمام الحديث بانسيابية فائقة ، وبينما تحدثنا شفاههم وألسنتهم ، تتحرك أيديهم لتصوّر بعض الأحداث ،و تراقبنا أعينهم ، لتلحظ علامات الملل على وجوهنا ، فإن وجدوها تسارعت أحداث قصتهم ، وإن لم يجدوها أبطؤوا ليحظوا بآذاننا فترة أطول ، ولعلهم يمزجون الأحداث بنكهة الفكاهة ولعلّهم يقفزون على مشاعر السامعين ليمتطوا صهوة حصان التشويق التي طالما أطعمه السامعون من لذيذ مديحهم وسقوه من سائغ استحسانهم  .
 لكنها تبقى فنون بشرية ، فكيف بحديث ربّ البشر  ، حديث من خلق لنا الألسن ، ورسم لنا الشفاه وصور لنا الآذان  ، فهو من خلق الإنسان وعلّمه البيان ، فخطابه أطيب خطاب و كلامه خير كلام  و قصصه أحسن القصص ، لكننا (نخطئ) فنعجز أن نتدبّر حين نسمع كلام من خلقنا كما نسمع كلام من خالطنا ، فكلام الرحمن  يستقبل بالإيمان وبعدها نتأمل كيف لنا أن نغرف من فيض المنّان ، أما كلام البشر فيناقش ويتحقق منه ويدقق لكننا قد نفعل ذلك مع القرآن ، فتضيع متعة القرآن ، فنحن لا نحتاج أن نفهم كل علوم هذا الكتاب لنتدبّره ونأنس به  - وإن كان التعلم مهم - لكن الإيمان به يكفينا ، ويكفينا أن نعلم من هو قائله ونعلم أنه يخاطبنا ونعلم أن هناك شيئ مشترك بيننا وبينه فقائله وخالقنا واحد  .
 حين نسكب القرآن على عطش أرواحنا ، ستشرق شمسه في صبيحة يوم تدبّرنا، حينها سنجد ثمرة الأنس تنبت في قلوبنا ، إنه أنسٌ  يجمع الأرواح لا الأجساد  بالقرآن  ، فحين يزور آذاننا هذا الضيف الكريم ، فلنسكنه في أوسع  دار من دور قلوبنا ، و لنلقاه بالمحبة فهو رسالة من شقائنا تنجينا ،  ولنكرمه بالتعظيم ، فهو من ملك عظيم ، ونفرش له بساط المحبة ، وبعد أن نكرمه ستلتقي أرواحنا به ، وسيجتمعان فكلاهما من الله ،و في أجمل لقاء  ، سنشعر بجمال الأنس ، وروعة اللقاء ، ستفيض عيوننا بالعبَرات ، و تتجمّد عروقنا من عظمة الآيات وذلك حين تهزّنا آيات العذاب ، لكنها تنساب ، في عبق الرحمات ، وفي وسط زوبعة المشاعر القرآنية من خوف  ورجاء وحب و شوق ،،،  تولد المتعة الكاملة  ، ترفعنا من آدميتنا قليلاً  وتنسينا طيننا  ، فحين نعجز أن نزيد دقيقة واحدة متع أجسادنا ، سيسعد المُوَفّقون في استمرار متعة أرواحهم ساعات  ،  فنعلم أن للروح متعة ويالها من متعة ، ونعلم أن للفضيلة زهاء ونقاء ، أجمل من الثراء ونعلم حينها بركة القرآن فهو طريقنا الوحيد الى الجنان ، فمالنا لا نرى وروده ، ومتعة السير فيه.
يقول البروفيسور جفري لانق- الرياضيات - في كتابه حتى الملائكة تسأل " أنه كان ملحد وأسلم وذلك حين قرأ القرآن - مفسّراً - ورأى دلالات واضحة على صدق هذا الكتاب ، فالمتكلّم ( الله سبحانه ) قد خلا من الزمان والمكان ، ولأن البشر بطبيعتهم مرتبطين بزمان أحداث حياتهم وأماكنها ، فنقول في يوم كذا حدث كذا ، فيقول حين أسلمت حرصت أصلي الفجر والمغرب والعشاء ، في مسجد بعيد عن بيتي  ، فرق قلب إمام المسجد فقال لي :  إن جيران المسجد ، لم يأتوا ، لم لا تصلي ببيتك فأنت بعيد جداً عنّا، كما أنك لا تفهم العربية ، فمكثت أصلي  ، وحين سألني الإمام قلت : هل يفهم الرضيع غناء أمه  فقال : لا ، فقلت له : أنا لا أفهم كلام ربي ، ولكنني أطمئن له  كما يفعل الرضيع حين يسمع صوت أمه " 

"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ" 

عبدالله عبداللطيف الابراهيم


Saturday, July 28, 2012

أضئ قلبك


للتحية نرفع يدنا أو نمدّها للمصافحة , لكننا حين نرفعهما عاليتين ، فهذا إعلامٌ لنا بالحضور بين يدي  «عالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال» ورفع كلتا اليدين في وقتٍ واحد هو إشعارٌ لنا برمي همومنا والامنا وآمالنا  خلف ظهورنا لنقبل على الصلاة بقلب لا تشغله الهموم ثم نضمهما تحت الصدر لنظهر إنضباطنا في حضرته ، لينضبط معهما قلبنا و يطمئن بهذا اللقاء العجيب.
  حين نستهل الصلاة بقولنا " الحمد لله رب العالمين"  نفتتح هذا اللقاء  بالحمد ، رغم أن شكره باللسان محمود ، إلا أن تعداد النّعم بالقلب هو الأفضل ، فمنته كبيره ، وفضله عظيم ، وكرمه فيّاض فلا حمد يجازي نعمه ولا شكرٌ يردّ له فضله ، ولاثناء يليق بقدره ، فكم من ضالِّ عبد صنماً أو بقره ، وكم صوّامٍ قوّامٍ ، معتكف في كنيسته ، لكنه ضال ، فينسب لربه الولد  ، ثم  يصلي لربه كما هو يظن وليس كما أمر ربه ، محرومٌ من جنة الدنيا و محرومٌ من جنة الاخرة ولذا نقول " اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" ، فحين نستذكر النعم لا ننسى نعمته بأن دلّنا على طريق رضاه " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان " "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " والمسكين من لايعرف العدّ.
لكن لقاء المخلوق بالخالق يتوجب تكريماً خاص ، وتعظيماً خاص ، واعلانٌ بالاستسلام و الانقياد ، ولأجل ذلك  فكل التحايا لن تناسب اجتماعنا بمن نفخ في هذا الجسد من روحه ، ولولا أن هدانا لما عرفنا الركوع والسجود ، فينحني ظهرنا منحنيا له ، و نضع جباهنا التي كنّا نرفعها عالية لنضعها على أرضه وملكه وبحضرته، لكن الغريب في تلك السجدات أنها ترفعنا لا تخفضنا ويشعر العبد في أعلي مقامات العبودية ، أننا ننخفض إنخفاض العاجز ، ونرضخ رضوخ الضعيف ونهون هوان المحتاج ، لكن كل ذالك الذل بحضرة الرب ينقلب الى ضياء يملأ قلبه  ، فيغمرنا جمال القرب  و يأنسنا  حديث مع الرّب و متعة المناجاة " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"( صحيح ) ولأنه ليس لله من كفؤ فالجميع سينحني له ، ومن لا ينحني سيعذّب "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب".

كباقي العبيد ، نسكن  معمورة المعبود  ( اضغط الرابط إن أحببت ) و لكننا وإن كنّا وحدنا في السجود ، إلا أننا نسبِّحُ مع الخلائق ونحمد مع الخلائق "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ   وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ "  ، وفي وقوفنا للصلاة نستشعر أصطفافنا مع الملائكة ،  قَالَ  رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ , أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقٌّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ( أطّت : ثقلت وصار لها أطيط أي صرير )  ؛ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا وَمَلَكٌ  وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" حسنه الالباني
"قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ" وفي ثناء الله على المؤمنين ، بدأ سبحانه  بالخشوع كأهم صفة ، وأما الآية "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" فقد جائت بالاهمية السادسة من سورة المؤمنون  دلالة على أن معنى الصلاة السامي هو الخشوع  ، فالخشوع هو درّة تاج الصلاة ، ومقصدها، والخشوع هو  بتحريك القلب ، وليس بتحريك الجسد ، و هو إحساس واستشعار وإنغماس في العبودية في حضرة المعبود ، هوخفقان القلب بالامتنان ، وانقطاعٌ  عن المشاغل ، فالشاغل أعظم ، إن الصلاة إتصال للروح بخالقها و إياب الروح إلى نافخ الروح  ،  فكم من مصلي يقول بلسانه " الحمد لله رب العالمين" لكن قلبه يقول كيف سيحمدني ربي أن وقفت لأصلي له ، وكم من مصلي يقول بلسانه إهدنا الصراط المستقيم وقلبه لا يسأل الله الاإن يهديه الى ما يملأ جيبه .
 و بتكرار الصلاة  يضاء القلب ،  فهو لقاء يجمعنا بالنور " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ" ويقول " يهدي الله لنوره من يشاء" وإذا أردنا أن تضاء قلوبنا من نور الله لنقرأ الاية الي تليها مباشرة "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ "


عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Thursday, July 26, 2012

مكتب التحقيق في الحسد


مكتب التحقيق في الحسد 

تفضل اجلس ، أنت تسأل : من؟ ، المحقق يجيب  : نعم أنت فأنا أريد أن أتحقق من حجم الحسد في قلبك ، تفضل اجلس ، مالك لا تجلس ، المحقق يكلمك وأنت تتجاهله : لِمَ تشك أنني أكلم غيرك ؟  نعم أنت ، أنت أنت لا أحد غيرك  ، نعم أنت قارئ هذه السطور ، حين تقرأ عنوان هذا المكتب  " مكتب التحقيق في الحسد" وتدخل ، تتحوّل تلقائياً الى مشتبه به ،اممممم ( أنت تفكر ) و لم دخلت إذن ؟ لم لا تجيب ؟ ( المحقق يسألك ) سأمهلك دقائق لتخرج من مكتبي أو سأبدأ التحقيق :  ٣  ، ٢  ارفع نظرك وغادر عني أو انظر لمقالة  أخرى الآن قبل أن أبدأ التحقيق معك الآن ، ١..  أنت متهم بوجود حسد في قلبك !  أنت : أنا لا أحسد أحداً ، المحقق : كلكم تقولون ذلك عند دخول مكتبي ، أنت :  لكنني أكره الحسد ، المحقق : ارفع رأسك واقرأ قانون الحسد الوحيد المعلّق في هذا المكتب "ما خلا جسد من حسد ، لكن الكريم يخفيه ، واللئيم يبديه " ، كيف وأنا أكره الحاسدين وكل صاحب قلب أسود ( أنت تجيب ) ، المحقق: هذه طبيعته الحسد لولا وجود مكتبنا مفتشاً عنه لاختفى ولأنكره  الجميع  ، فالكل يخفيه مع أنه لا يخلو قلب بشر منه ! ، هيا قل لي :ماهو آخر أمرٍ حسدت به غيرك ، أنت : أنا لا أحسد! ، المحقق : لا أدري لم الناس لا تجعل الأمور بسيطه وتعترف ! ، ماهو دينك ( المحقق يسأل ) : الإسلام ( أنت تجيب ) ، المحقق: أحضروا القرآن الكريم ، ضع يديك عليه ، ( تضع يديك عليه بلا خوف ) المحقق : قل خلفي : أقسم بالله العظيم ، أنت : أقسم بالله العظيم ، المحقق : أن أُعمى بكل كذبة أكذبها هنا سنة ثم يعود لي نظري ، أنت : لا ، السنة كثير وأخاف أن أخطئ ( جلَّ من لا يسهو ) ، المحقق حسناً بكل كذبة شهر ثم يعود لي نظري  ، أنت: حسناً أُقسم ،،،، 
المحقق : هل عندك أخوان لتحسدهم ؟
أنت : هل جننت ؟ وهل يحسد المرء أخيه ؟ حححح حححح آسف على اللفظ ،، بكل تأكيد إختيار اللفظ غير موفق (ثم أنت مبتسماً )
المحقق : لابأس  ، أقسم أنه لا يوجد من يحسد إخوانه ؟
أنت ( متذكراً العمى ): أنا لا أحسد إخواني .
المحقق : هل تعلم من الذي قد حسد نبي الله يوسف ؟
أنت ( ممازحاً) : هل تريد أن تحقق معه أيضاً ؟  إنه نبي !
المحقق ( مبتسماً ) :لا ، إنما أريد أن أذكرك بأن الحسد يكون بين المتنافسين ولو كان جارك او شخص يضاهيك وينافسك ، ولا أشد من منافسة الأخوة .
المحقق: هل حقق نجاحًا أحد أخوانك يوما ما ؟
أنت :نعم 
المحقق : هل أثنيت على نجاحه ؟
أنت : نعم ، لقد باركت له .
المحقق : هل شعرت بسعادة غامرة حين نجح ؟
أنت : نعم ، فأنا أتمنى له الخير من كل قلبي .
المحقق : مع من تتنافس في العمل  ؟
أنت: كثير
المحقق : هل حقق أحد منافسيك نجاح وتفوق؟
أنت : نعم ، وباركت لهم .
المحقق : هل داهمك شعور بالإنزعاج حين تفوقوا وتأخرت أنت عن تفوِّقهم ؟
أنت : لقد انزعجت لأنني لم أفعل ما فعلوه ، ولكنني فرحت لهم .
المحقق : هل تمنيت لهم أن لا يحققوا نجاحهم 
أنت : ( متذكر القسم ) لا أذكر .
المحقق : هل شعرت بأنك غير مرتاح لنجاحهم 
أنت : لا أذكر .
المحقق : ( يغضب ) أجب الآن ، هل شعرت بعدم  الراحة لرزقٍ رزقه الله غيرك سواء كان نجاح أو مال أو ترقية أو شهرة أو بيت أو زوجة ،،،،
أنت : أريد الحمام 
المحقق : أخرج ولا تعد مكتبنا ،،، وتذكّر ، سأراقبك من اليوم   
ثم يتمتم قائلاً : كلكم هكذا ، ثم يرن الهاتف فيجيب ، نعم أنا المحقق زيد ، يصمت يستمع طويلا ، ثم يقول ، ولم أنا بالذات أُنقل من هذا المكتب ، ولم زميلي المحقق عبيد يتمتع في هذا المكان منذ خمس سنين ، تنتهي المكالمة ثم يقفل الهاتف.
أنت : أليس هذا بحسد ؟
المحقق: يخفض رأسه ، أستغفر الله ،أستغفر الله ،أستغفر الله ، اللهم إني أسألك لعبيد كل الخير ، اللهم وفقه ، وارحمه وبارك له في ماله وأهله وولده ،،، نعم لقد حسدته ، وهذا هو العلاج.

عبدالله عبداللطيف  الابراهيم 

Wednesday, July 25, 2012

قصة التّكبّر




في أكرم المجالس ، يقترب الأكارم من أكرم الأكرمين ، وهناك يختلف التكريم ، فلا يُؤذن بالحضور لمن جَمّل هيأته ، أو حسنت صورته  ، وإنما لمن صلحت سريرته و استقامت أفعاله ، فقربه من ربه أعظم المكافآت .
ورغم أن هذا هو الأصل ، إلا أن إبليس الخسيس قد أُذِن له  بالحضور ، رغم فساد في سريرته ، لكن حكمة الحكيم ، أرادت له الحضور ، فرغم فرحته بالإقتراب وشعوره بالتكريم ، إلا أن التكريم لم ولن يكون له! فقد كان لنا حيث أُمر الحاضرون بالسجود لمخلوق جديد خلقه الله سبحانه بيده ، وأُمر كل الحضور بالسجود له  ، لكن إبليس إستحقرنا ولربما نظر إلى خِلقَتِنا كما ننظر نحن اليوم الى الدواب فهو مخلوقٌ من النار ، ضخم البنية ، عزيزٌ في قومه ، فكيف ينخفض لنا !
ولهذا السبب دعي الخسيس الذي أبطن الشر ، وأظهر الطاعه فكشف الله معاداته لنا لسبب بسيط لأننا و الشياطين سنتقاسم العيش على هذه الكرة ، وهم يرونا ونحن لا نراهم ، فلابد أن نعلم شرهم لنتقي كيدهم.
خالف إبليس أمراً واضحاً من الجبّار بالسجود ، فخاطبه ربه مستفسرا عن امتناعه " مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ؟ ، رغم أن الرب سبحانه يعلم الإجابة قبل أن يسأل ، لكنه يسأل ليجعل المسؤول يقر بما خبّأه قلبه " أستكبرت أم كنت من العالين " ؟ ولأنه سبحانه يعلم الإجابة فليس هناك احتمالات لأسباب امتناعه عن السجود ، فالاستكبار والاستعلاء كلاهما نتيجة واحدة لعمل قلبي اسمه الكِبِر ، و فُضح هذا الخسيس ، وعلم إنه سيطرد من مقامه الرفيع ليس لامتناعه عن السجود ، فالله من يغفر الذنب - حيث غفر الله لآدم - لكنه سيطرد لأن مجلس الله أعز من أن يحضره من يحقر خلقاً من خلقه "قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " .
في ذلك الزمن السابق ، علمت الشياطين أن أسهل الطرق لنتساوى في الذنوب معهم هو أن نتكبّر مثلهم  فأبوهم قد ذاق عقابه المعنوي  بالطرد وسيذوق عقابه المادي بالحرق ولأن جعل بني آدم يتكبرون هو هدف عظيم بعيد المنال ، جعلوه خطتهم الطويلة لنا ، يغرسون فيها بذور الكبر في أنفسنا غرساً وتقسّم ثلاث مراحل حتى لا نكتشفها ، ففي المرحلة الأولى وكلما فعلنا فعلاً طيباً ولو كانت طاعة ، رفع الشيطان يديه لنا بالتصفيق موسوساً ، ثم يعاود جلب محاسننا وجميل صنائعنا - في أذهاننا - ولا يمكن لنا أن نعلم هدفه حينها ، لكنه يشجعنا عليها لا لنكررها ، بل ليغرز إسفيناً يربط عليه خيوط وساوسه ويهيئنا للمراحل المقبلة ، وبعد أن يرينا جميل أفعالنا ، ويعظّم أفعالنا بعيوننا ، ينقلنا إلى مرحلته الثانية وهي أن نحقّر أفعال غيرنا، وبالرغم من أن كل إنسان يقوم بهذين التفكيرين دون وعي إلّا أن الشيطان يؤكد عليهما بوعي وخطة مدروسة ، فتكرار تحقير أفعال الغير وتكرار تعظيم أفعالنا كفيلان بتهيأتنا لمرحلته الثالثة التي نتساوى معه فيها بالتكبّر على خلق الله ، وفي هذه المرحلة تعقد المقارنة بين ما نعظمه لدينا وبين ما نحقّره لدى الغير فيدخل الكبر في قلوبنا ونستعلي على خلق الله بأن نحقّرهم ونعظّم أنفسنا .
ولأن المتكبّر غالباً ، يحتقر من ينصحه ، ويرى في نفسه مرتبة أعلى من الناصح لذا لا يرجى شفاؤه ( إن كان في المرحلة الثالثة) أما في المراحل الأولى فإن علاجه إن يحقّر نفسه ، ويعظّم من يحقره حتى تستقيم نفسه على أن لا تحقر خلقا خلقه الله .
ومما يوجع القلب أن الكبر يحرص الشيطان أن يغرسه في قلوب أهل الطاعة قبل أهل المعاصي ، ليغرس قنبلته التي تفجر طاعاته بكبرٍ خفي لن ينصحه فيه أحد ، وترى الرجل أو المرأة الصالحة قد أطلقوا يديهم بالخير ، وجاد لسانهم بالذّكر ، لكن هذا الرجل رغم حرصه على صلاة جماعة ، يقف الفقير بجانبه ، فيتأذى من رائحة عرقه ، فلا يحمد الله على فضله بأن رفعه وخفض غيره ، بل قال في نفسه "كيف يتعدى هذا الجاهل على المسجد برائحته ؟ " وينسى ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن بال في المسجد ، فيذهب أجره بتحقير خلق الله ، و يضيع عمله باستعلائه عليه ، ولربما أظهره لسانه.
لكن غبار الكبر لا يكاد ينجو منه أحد ( نسأل الله العافية )، فكثيرٌ من الناس يتكبر بماله ، أو بوطنه وجنسيته ، أو بطوله أو بقوته أو جماله أو نسبه أو بمنصب أو بوظيفة ولا يعلمون ماذا يقول الله في الحديث القدسي" الكبرياء ردائي ، فمن نازعني في ردائي قصمته" (صحيح ) ويقول صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر "( صحيح ) , فهل سينجح إبليس في غرس حبة من خردل في قلوبنا قبل أن نموت ؟

Friday, July 13, 2012

بلاد الواو


بالرغم من أن الشمس تشرق علينا قبلهم بنصف يوم إلا ان ضياء علومهم قد أنار ليلهم قبل ليلنا بنصف قرن ، وفي هذا البلد الذي أبهر العالم ، بصناعة أفلامه وصناعاته و أسلحته يستمر الإبهار وأصبح معلماً يزورهم ويزورونه فهو جزء من ثقافتهم وممارساتهم اليومية ، فلا طعام يقبلون به دون الإبهار ولا سيّارة يركبونها دون الإبهار ولا برنامج تلفزيوني أو فيلم وحتى حدائق ترفيه أطفالهم تجد فيها الإبهار ، لكنه يرفع سقف تكاليف حياتهم ، ففنجان قهوتهم المبهر قد تضاعف ثلاث اضعاف مقابل الحصول على الكثير من الإبهار في مستوى الخدمة والكثير من الابهار في حسن التعامل و إبتسامات العاملين والكثير من الإبهار في النظافة و ملائمة المكان ولكنك ستحصل على قليل من قطرات القهوة المركزة.
لكن الإبهار ليس حِكرا على أفلامهم و صناعتهم وإنما هو جزء من اسلوب تفكيرهم ولذا تجده في تفاصيل حياتهم اليومية ليجعل مطاردة الحلم الأمريكي ( امريكان دريم ) مطاردة جادّة - وإن كانت مستحيله - للحصول عليه ، ولذلك تجدهم يقترضون ليعيشون في مستوى الإبهار المرغوب ، وبعد الكثير من نكساتهم الإقتصادية والكساد الإقتصادي يرفضون أن يكون الإقتصاد والتوفير هو الحل فتجد ثقافة الإبهار تتدخل في إسلوب حل أزمة ديونهم وكساد أسواقهم فنتفاجأ أن حلهم لها هو زيادة الإنفاق!
وكما أن رجالهم يحلمون في الثراء الي حد الإبهار، فإن نسائهم يبحثن عن الجمال ، ولكن كل المساحيق لن تجعل من كل الرجال يقولون واو عن جمال المرأة ، فانتقل البحث عن الأبهار من الوجه إلى الثياب ، ولأن أجمل الثياب لا تكفي لأن تجعل كل الرجال يقولون واو فتحولوا إلى الكشف عن الجسد ، و لأن الغرائز ( البهيمية) كفيلة بجعل أغلب الرجال ينظرون إلى الجسد المكشوف ، لذا تم الإستعانة بالغرائز ليبدأ التسابق في كشف الأجساد ، حتى أصبحت الأجساد المكشوفة هي الزي الموحد لكل طلاب مدرسة الإبهار الأمريكية .
لكن حياتهم المادية المبهرة تحولت إلى المظهر وتركوا إبهار الروح ، فعاشوا ليجمعوا المال دون أن يملّوا الجمع ونسوا أن المال وسيلة المتعة و المتعة لا تتطلب مالاً وأن بعض الرضا كفيل بان يقلب شقاء الدنيا جنة ولكي نتمتّع تكفينا الابتسامة ، والابتسامة لن تطلب منّا كشف حساب بنكي قبل أن تزورنا ، ( ولكننا نتصوّر ذلك ونصدقه ) ، و حين نناديهم باسمائهم نجدها هي للأنبياء مثل داوود ( ديفيد ) ويعقوب ( جاكوب ) وغيرهم من القديسين لديهم ، ولو خرجوا من قبورهم ورأوا ثيابهم المنافية لدعواتهم بالحشمة وعلموا أن محاكمهم تحفظ الحقوق ، لطالبوا بحقوق ملكية أسمائهم أن تحفظ ، ثم عادوا لقبورهم .

Saturday, June 16, 2012

ليست المدرسة ٢/٢


تحدثت في المقال السابق كيف كان الشارع يساهم في البناء التربوي ، وكيف تعقّدت العملية التربوية بزيادة مسؤولية الوالدين لبناء الجوانب الاجتماعية والأخلاقية  وأصبحت رحلة التعليم هي رحلة الألف ميل ، وهذه الرحلة  تبدأ بالمستوى الأول من التعلم في  شهور الطفل الأولى ، ولربما وهو في بطن أمه ، فقد قام دكتور بتجربة مثيرة ، وهي بالغناء المتواصل أثناء حمل زوجته  , وبعد شهرين من الولادة وفي حضور أصحابة غنّى لطفلة مجموعة من الأغاني  وكان الطفل مندمجاً، وحين غنّى له إغنيته اللتي كان يرددها في آخر أشهر الحمل ، توقف الطفل عن الإندماج ، وتوسعت حدقت عينيه  وكأنه يتذكّر ، أو يسأل نفسه أين سمعت هذه الأغنية ؟
ومن تلك الفترة تبدأ العملية التعليمية ، وفي أشهر الطفل الأولي  يقوم بمحاولة (حفظ)  أومحاكاة ما نقول و نفعل ، ويكون هذا الطفل قد تجاوز المستوى الأول للتعليم ، وحين نحاول جعله يفهم ما يدور حوله ، ونشرح له  كيف تعمل الأشياء التي يشاهدها من هواتف أو أجهزة وخلافه ،  فإن الطفل يرقى الى المستوى الثاني من التعلّم ( الفهم ) ، وإذا ما نجح في تطبيق فهمه السابق في التعامل مع أمر جديد كأن يتحكم في التلفاز بالمقارنه بما تعلّم سابقاً ودون أن يعلّمه أحد ، فتأكد أنه قد ارتقى المستوى الثالث ( التطبيق )  ، وبعد أن يكبر هذا الصغير ، و يتعلم ( التحليل ) ، وحين يستخدم ما يشاهده للوصول الى معلومات مخفية عنه بواسطة المقارنة والتدقيق ، سيرى الطفل أن والده  قد تغيرت تصرفاته تجاهه ، فيكتشف أنه متضايق  ، فإن هذه المرحلة دلالة على  ارتقاء الهرم المعرفي للأبناء ، لكنه وبكل تأكيد فإن هذا الطفل سيكون قادراً على( الإبداع و التقييم ) وهما المستويين المتبقيين من هرم بولم  (  ١٩١٣ـ-١٩٩٩) .
 لا شك أنه يصعب على الطفل فهم أمور الحياة بمفرده ، ولذا يكون دورنا هو " تبسيطها لأفهامهم " ، وهذا يتطلب اقتناص الأوقات المناسبة للتعليم ، ولتحقيق التقدم يجب أن تكون الأوقات التعليمية مناسبة لهم وليست لنا، فحين  نعلمهم فضل الأمانه ( الفهم ) ،  فقد يتأخرون في رد مال غيرهم ، فهنا نقول : إن الامانة درجات ( التطبيق ) ، و أقل هذه الدرجات أن ترجع المال المتبقي لغيرك بعد أيام ، فتبقى أنت أمين ولكنك في أسفل منازل الأمانه، واما أعلاها فهو أن لا تحدث نفسك  بهذا المال حين ترجعه بأسرع وقت .
 وحين يرى الأبناء تلك المنازل العالية من الأخلاق ، فإن الصعود لها يكون بدافعٍ وعزيمةٍ أقوى ، وبكل تأكيد ، فإنهم سيرون عناء الحرص على الامانة وأعلى مقاماتها هو مضيعة جهد لأننا لم نبينها لهم ، ويمتد دورنا إلى اكتشاف أخطائهم ، فحين يعرج ابننا ، فإن التركيز وتقوية ساقه السليمة لن يصنعه عدّاء ، فبعد اكتشاف الخطأ ، يتوجب التركيز على خطأه ، ومثال ذلك  أن نرى منهم خوفاً من مواجهة من هم في أعمارهم حين يكون الحق معهم ، فينصرفون عنه خوفا من المواجهة ، فنراقبهم ، ونشجهم على أن لا يتنازلوا عن حقوقهم حتى يواجهوا ضعفهم وينتصروا عليه ، لنجعل منهم أقوياء  بلا ضعف ، تمهيداً ليومٍ  تطرحهم فيه الليالي والأيام أرضاً ، وبلا أب أو أم  يسندهم ، فإن لم نصلح لهم عرجتهم ، أدركتهم صروف الزمان ثم افترستهم لأن من كان يجب عليه أن يصلح عرجتهم قد عضد لهم زمناً ، ثم غاب عنهم .


عبدالله عبداللطيف الابراهيم

ليست المدرسة ٢/١



ذكر روبرت ليسي مؤلف كتاب المملكةنقلاً عن الكولونيل ديكسون ( المعتمد البريطاني في الكويت ) أنه قدّر في ثلاثينياتالقرن الماضي أن ربع من يسكنون في البوادي المحيطة بالكويت ، كانوا يعيشون علىالنوق فقط ، وربع آخر يعيشون على الحليب والتمر فقط ، بينما النصف المتبقي يعيشعلى التمر والحليب والخبز ، ولم يكن حال أهل الضواحي أسعد حظاً من البوادي ، فأهلالبحر كانوا يغيبون في موسم الغوص أربعة شهور ، ليحيوا حياة الكفاف ، وقد يعاودونالغوص في مواسم أخرى مثل موسم الخانجية أو الردة ، لكن بيوتهم الصغيرة نهاراًوالمظلمة ليلاً هي كبيرة بنفوسهم العظيمة ومضيئة بحبهم لبعضهم البعض  ، وحين يخرج الصغار الى الفضاء الواسع (شوارعالحي) تكون لهم الملعب  والمقهى  والتلفاز ، وفي  زاوية الطريق تعقد نشاطات النادي الاجتماعيلأبناء الحي , ولا يشترط الزي الرسمي لحضور مناسباته ، وبعض البقع الصغيرة  ( بحجم كف اليد ) على الثياب أمرٌ مقبولٌ ومتجاوزاًعنه ، ولربما كانت البقعة برهان هذا الصغير على أنهم أكلوا الدجاج المحبب والنادرفيقرب ثيابه ليشتمها (ليشمها) أقرانه ، والجميع بثيابهم علل ، فهذا مرقوع ، وذاك متسخ ، وهذا يلبس ثوب أخيه أو أبيه والأمرفيه سعه، وبالرغم من ضيق الحال ، فأن هذه الشوارع غنية بالقيم ، ففيها تدرَّسالشجاعة ، ويذم الانهزام  في العراك  ، وفيها يدرَّس الصدق ، فالكاذب مهجورومنبوذ ، وفيها يمارس الاحترام ، حيث يطرد من لا يجل الكبير ، ويتزعّمذلك من  يملك صك الزاوية أو ظل تلك الشجرة.
لكن خروج أبنائنا الى الطريق ( اليوم )هو  تذكرة ذهاب وإقامة في السجنالمركزي ، فمن يطلق لابنه العنان بلا رقابة ، فقد يترك الصالحين  و يصاحب مدمناً أو منحطاً ، ثم يتخرج مجرماًفاحشاً وفاشلاً بلا أخلاق ، وهذا يزيد مسؤولية البيت  لبناء التربية الأخلاقية والاجتماعية حيث غاب الشارعالذي كان يبني جانبا من أخلاق الطفل و من شخصيته الاجتماعية وهو ما  أثقل كاهل المنزل  و الأهل .
ومن المضحك المبكي أن ترى من يختصرالتعليم الشاق المرهق ويظن أن الطفل هو دميته التي  هي للممازحة أو ساعة راحته التي هي  للاسترخاء ،  فيبقى ابنه خالياً من المهارات ، وإذا ما أرادأن يعلم طفله فنون الحياة اختصرها بقوله "خلك رجال  " ثم ينتهيدوره بعدها ، و إذا ما كبرالصغير  يختصرتعليم فترة الشباب بقوله "إقعد عدل " أو " قبل رأس عمك "متجاهلا دوره العظيم ، لكن المبكي هنا ، أن هذا الصغير قد لا يحسن صنع شيء لأنه لاأحد يعلمه شيئا ، فلم يرفع المطرقة ، ولم يغل الشاي ، أو أنها لم تغسل الصحون ،فإذا ما دارت رحى السنين وكبروا واضطروا لإطعام أنفسهم ، فإنهم سيشقون شقاء من كان يبحث ويحاول إكتشاف العجلةولنتصور كيف حياته قبلها، لكن الاولاد الذين قد تعلموا كيف تعمل العجلة سابقا،ستحملهم الى أمانيهم لاحقا.


ملاحظة : في الجزء الثاني ، سأتعرض  للتعليم أثناء الحمل ومابعده ودورنا فيه
عبدالله عبداللطيف الابراهيم



Tuesday, June 12, 2012

درج الاّ منطق


في دهاليز عقل الأنثى ، تختبأ منطقة ال"لا منطق" ، رغم أن الرجال يحبون المغامرة ، الا أنهم في أدغالها يتيهون ،  وفي أعماقها يغرقون ، يعصى على الحكماء فهمها ، وعلى العقلاء سبرها ، إنها فيلم ثلاثي الأبعاد ، رغم جمال الفيلم وإتقانه  لن تحتاج نظّارة لتشاهده ، بل هي جيناتها الأنثوية .
ففي صغرها وكلما أوت الفتاة فراشها ، تسقي فيض مشاعرها هذه المنطقة من عقلها لتنمو وتكبر أشجارها حتى تغدو جنتها، إنها حلمٌ يقظوي غريب ، تصنعه في طفولتها ،  لكن مصاعب الحياة تصهره فيصغر حلمها من جنة غناء ، حتى تتحول  الى درجٍ من أدراج عقلها ، تجمع فيه من كل لحظة سعيدة عاشتها قطعة من ذكرى  ، وحين تفتحه تستعيد  براءة طفولتها وتشاهد فيه دميتها التي تحبها  ، وتمزج  فيه أطيب عطورها وأقدمها،  وفيه  تستودع طموحها ، فيمتزج واقعها بأحلامها ، لكنه يبقى درج في عقلها ، تهرع إليه حين تدور رحى السنين وتعتصرها الايام ، تغلق غرفتها وتفتح درجها ، فتعيش في جنتها وتنظر دميتها وتتذكر أمنيتها ، ثم تبكي ....
حين تأتي الأزمات ، وفي تلك اللحظات العصيبة  تكون الأنثى أماً ، أو زوجةً ، أو تكون فتاة ، أحبطها الواقع ، وآلامتها الأحوال ، فتخرج من غمد عيونها دمعها ، فهي سلاحها الانجع  في الأيام الضارية ، وحين تبكي  تتذكر مرجاً أخضر طالما افترشته في طفولتها ، ولأنها في ضيق وحزن ، تجد كل السعادة حين تفتح هذا الدرج ، وتحضن دميتها ، وتشتم عطرها ، وتشتاق أمانيها التي قطعتها الأيام ، ومزقتها الليالي ، فيشتد بكائها لكنها تتمتع !
يقول شكسبير:" إن محاولة التفاهم مع الأنثى وهي تبكي يشبه تقليبك لأوراق الجريدة وسط العاصفة ، فقط إحتضنهآ وسوف تهدأ" ، وبالفعل فحين تجد بكائها ، وتحاول أن تهدّئها لن تستطيع أن تقرأ من أفكارها كلمة ، ولن تستطيع أن تفهم من أقوالها موضوع ، إنه درج ال"لا منطق " قد فتح  ، فهي تعيش في حلمها اليقظوي ، تمتزج فيه أحلام  طفولتها ، و تتقاطع  فيه أمنياتها مع واقع يضغط عليها ، وطموحٍ يتلاشى ، لا تحاول أن تتناقش معها، أو تشرح لها ، لا تحاول أن تجري حواراً أجوف ، لكنك إن أردت مساعدتها لتخرجها من ضيقها ، أعد إليها شيئا من درجها ، أو أرجع لها أمنياتها التي ضيعتها ، وأن عجزت  ، فقدم لها العزاء بما ضاع ولو بحضنة .




عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Monday, May 28, 2012

الدّرس الكبير

منذ أن كان خالداً طفل صغير ، ظهرت عليه علامات النبوغ و النباهة والذكاء ، وأصبح  يقدّر المال جدا ، وقد أعجبه بريقه فعمل بجد واجتهاد ، وتعرّف الى بعض الساسة ، فتفاجئ بسطوة السلطة و سحر النفوذ ، فتقرّب ممن يظنهم كذلك ، وقويت علاقته بهم ، ولأن مزيج السلطة والتجارة غالبا ما ينجح ، فقد توسّع نشاطه وتعاظمت أرباحه .
ولأنجاز أعماله خارج البلاد ، حجز مقعداً في مقدمة الطائرة ، فعلى أرتفاع ٣٠ الف قدم ، حيث يندر الأوكسجين ، وتنخفض الحرارة الى ٥٠ درجة تحت الصفر ، مسح خالد يديه بالفوط الساخنة ، لتبدأ عربات الطعام زيارتها إليه ، تتقدمهم عربة الجبن المجلوب من الريف الفرنسي والزبدة الدنماركية  ، ليلحقهم الزيتون الاسود الاسباني ، والمشروبات المصاحبة ، لكنه يفضل زجاجة الماء من جبال الألب ، وبعدأن  فتحت شهيته للطعام ، سيقت له اللحوم الهولندية ، و سمك السلمون المدخّن  من نهر الدانوب  ، إلا أنه قد إختار لحم  الضأن السويدي المقدد ، فأكثرمنه و شعر بالامتلاء ورغب بالنوم ، ولما أحس بالنعاس داهمته عربة الحلويات ، فجحظت عيناه ، ورغم ثقل بطنه أشار على إستحياء بإصبعه إلى قطعة صغيرة من الحلوى غمرتها الشيكولا الساخنة ، فمدّ يساره ليستلم صحن الحلوى، لكن مضيفته تأخرت عليه بعض الشيئ لتتبع تعليماتها ، فأضافت بعضا من اللوز وقطعة صغيرة من الايس كريم محلاة بطعم الفانيليا ، ولأن النوم قد غالبه ، إلتهمهم بلقمة واحده وتمدد في الكرسي ، و شرع يتذكر لحظات تمرير بطاقته الائتمانية  في جهاز الدفع ، حيث لم تبارحه ذكرى إنخلاع فؤاده بعد ورود إشعار الخصم من حسابه ، فقال بعدها في نفسه  ،إن ما دفعته ثمناً لهذا الكرسي ، قد يفوق ما يقدّم لجميع الركاب من طعام ، ولانه هذه الفكرة أزعجته،  تناساها لينقض عليه النوم ، فانخفضت الاصوات ، وطفأت الانوار ، لكن جاره لم يتوقف يحتسي نبيذه ولم يذق سوى المكسرات ، وكلما فرَغَ كأسه ضرب الجرس وأُعيد ملئه ، وبعد دقائق ،إرتعشت  الطائرة كعصفورٍ خرج من الماء ، وأضيئت الأنوار ، وظهرت علامة ربط الاحزمة ، فعدل كرسيه  وانتظر بترقب ، رجفت الطائرة مرةً أخرى وأخرى وأخرى ، فعلم أنها مطبات هوائية قوية ، وأصبحت الطائرة  مثل قشة في عاصفة ، وتدلت الأقنعة ، وتذكرخالداً فيلماً  شاهده من أيام ، يُشرح فيه أسباب سقوط طائرة نتج عنه ٢٢٠ قتيل ، فتملكه الخوف  ، واستفسر من المضيفة ، وهو يعلم أنها لا تعلم ، لكن هذا كل ما يستطيعه ، وبعدها إستذكر أن رصيدة البنكي في وجهته لم يخبر به أحد ، وأن كل ما عاناه سيكون لقمة سائغة لهم ، لا يدري ما يفعل ، يسمع أصوات الهلع ، وصراخ الاطفال من خلفه ، نظر إلى من بجانبه فإذا به قد أفرط في الشراب ، وبدأ يغني ، أعلن قبطان الطائرة أنها مطبات هوائية  وسيخبرهم بالجديد في حينه ، إقتلع هاتف الطائرة ومرر بطاقته ، واتصل بصديقه الوزير ، قال أنا في الطائرة وأريد أن أعرف الخبر ، رد عليه صديقه ، أعطني ساعة لأحقق في الموضوع ، رد قائلا: ومن أين آتيك بساعة قلبي سيتوقف ! ، قال له الوزير: أنا سأتصل بك حين أحصل على المعلومة ، ردغاضبا : أتسخر مني ، أعتذر الوزير مقهقها ، أعذرني والله لم أقصد السخرية ، وأغلق الخط ، إنخفضت الطائره في مطب هوائي إنخفاضٍ طويل مريع ، تعلق قلبه في حنجرته ، حينها إلتفت جاره إليه وسأل خالد:  ما الامر ؟ قال خالد: مطبات هوائية ، قال ، أنا كثير السفر ، هذه ليست مطبات ، هذه سقطات هوائية  ، إنه أمر كبير ياسيدي ، توسعت مقلتا عينيه ، حين رأى علامات الخوف في عيون من لا يمكن له أن يخاف لغياب عقله  ، عادت المطبات القوية ثانية ، نظر من النافذة وأذا الارض قد بانت من بعيد ، فقد إنخفضوا كثيرا ، عاود الاتصال بصديقه ، فرد عليه ، سيدي سأصدقك الخبر ، أنتم عالقون في عاصفة لا يستطيع القبطان أن يغير إتجاهه لانكم ستتحطمون في محاولة الخروج منها ، عليكم الانتظار نصف ساعة أخرى ، الله معكم ، وبانتهاء المكالمة انقلع قلبه بانخفاض جديد ، يسمع فيه دوي محركات الطائرة التي تعمل في إنعدام الهواء بلا فائدة ، لكن دوي نبضات قلبه كان أقوى، غسل جار خالد وجهه ويديه ، ثم رفع يديه يدعوا ، لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، أشهد أن لا إلاه إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، ثم يعيد ويكرر ، ردد خالد الشهادتين ، شرع يستغفر ، ثم ينظر الى جاره ما يفعل ويقلده ، توقف جاره عن الاستغفار قائلا : ربي أعلم تقصيري في حقك وأعلم ذنوبي التي ملئت السماء والارض ، أسألك بكفالتي للايتام أن تنجيني من هذه ، تعجّب خالد كيف يخاطب جاره ربه ، لكنه قال في نفسه ، لو أنني أحسنت الى أحد وطلبت منه ردّ الجميل لما إمتنع  ومن المنطق أن أسأل الله بأعمالي الصالحة أن ينجيني ، تذكّر خالد أعماله الطيبة ، فلم يتذكّر منها شيئ ، حاول وحاول وحاول ولم يجد ، رفع خالد يديه الى السماء وقال : اللهم إستجب لجاري ، وحين وصلت الطائرة الى وجهتها آمنه ، طلب جاره كأسين ، وقال لخالد إحتفل معي بسلامة الوصول ، إعتذر خالد ولكن جاره أصر ، جامله بشرب رشفة قائلا في نفسه "لقد تعلمت الدرس الكبير ، لن أضع مالاً خارج بلدي " .




عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Wednesday, May 16, 2012

ملحمة الحياة الصادقة




للأفلام سحر يتذوقه الكثير ، نجلس بترقّب ، ونستمع ونشاهد بتركيز ، ثم نندمج بلا إدراك ، تسترخي أجسادنا على الأرائك ، لتنطلق عقولنا في رحلة مشوّقة  , نشتم فيها سحر القَصص ، الذي طالما شممناه صغاراً ، لكن تعب الحياة يجعل متعته أعظم  ، ورغبتنا في العودة إليه ألح ، فتجذبنا قوة الكلمة و يدهشنا خيال الكاتب ويبهرنا أداء الممثل ولمسة المخرج ، ننظر في الساعة ، فنجد عقاربها تقفز بسرعة ، ونريد لها أن تبطئ أو تتوقف ليستمر شعور المتعة أكثر و أكثر، لكن إحساسنا بالوقت ينتهي بعد النظر الى الساعة ، و نعود للمشاهدة فلا نشعر بمرور الوقت ، فأزمنتنا تتغير الى زمان القصة و نحلّق بأرواحنا الى مكانها ، وللأسف ينتهي الفيلم بانتهاء القصة ، لتنتهي رحلتنا الجميلة بهبوط مزعج لطائرة المتعة في مطار الواقع .
وبالرغم من جمال الرحلة ، الا أن الغريب والمحير أن الافلام تمتعنا وهي  أكذب بقعة على هذه الكرة ، فما يقال ، هو محض إفتراء ، فهذه المشاعر لا يشعرون بها ، ولو بحثت عن كلمة صدق فقد تعجز ، وترى الممثل يقسم وهو كاذب ، ويكره وهو يحب ، ويحب وهو كاره ، وتجده  خائفا مرتعداً لكنه آمن ، والعجيب أننا نريد منهم أن يكذبوا أكثر وأكثر  ، لأن هذا الزيف أجمل من الواقع ، ونقول عنه " كذبٌ بالتراضي وبلا ضرر"  ، لكنه سقف الكذب الاعلى الذي لا يمكن لأحد أن يكذب شراً منه ، ولن نجد حبكةً مفبركةً تنطلي علينا أفضل منها.
وكما أن الكذب درجات ، فكذا الصدق درجات ، وأولها  قول الحقيقة الناقصة أو المجتزأة ، فهذا المتحدّث يقتلع الاجزاء التي لا تناسبه ويلونها بلون مصلحته المناسب ، لكنّها بوصف أدق نكهة الكذب المفضلة ، فمن يسمعه سيفهم معاني كثيرة ، الا أن الحقيقة الكاملة ، ليست من تلك المعاني التي ستصل له  ، ولكن  هناك من الناس  من يحب أن يصعد في درجات الصدق درجة درجة ، فهم من يعلمون حقيقة مراقبة ربهم لهم ، ويعلمون أنه هذا الاختبار من الله ، ورغم أن أشكال الاختبار تختلف الا أنها تتشابه ، فهي إما مصلحةٌ في الدنيا أو مصلحةٌ في الآخرة فأيهما يختار ، ومن يختار مصلحة الدنيا فإن  ثقته بالله ضعيفة ، فهو لا يثق أن كل الخير مع الدرجات الأعلى للصدق لأنها تقوده الى القرب من ربه فهو يعلم السر وأخفى ،  ولأترككم مع الصدق ليحدثكم عن نفسه :
" أنا جمال الحب الصادق ، وجوهر الأخوة الصادقة ، أنا سقف المشاعر الأعلى فإنها إن صدقت ارتفعت ، وجميع  الخلق إذا صدق سمى ، أنا أجمل المناظر وأحلى اللوحات ، من يصاحبني ، تصاحبه أعلى المقامات؟ أنا أولد معكم وتتركوني ، هل سألتم طفلاً عن خطئه وكذَب ؟  ألست أنا سر جمال طفولته وبراءتها ؟ ، هل تتضايقون من  الابتسامة الصفراء ؟ أوليس غيابي عنها سبب قبحها  ؟  ألست أنا خلف سحر الابتسامة  الجملية ؟  إذا صدقك عدوّك ستشعر باحترامه ولو أبقيت عداوته ، الست من زيّن الأعداء؟،  أنا من أوصلت الصدّيقين مرتبتهم ، وأنا سفينة الخير في طوفان الكذب ، أحمل  الصادقين الى موانئ النجاة ، سأتخطى بهم عالي الامواج  إن وثقوا بالله ، ولن يجرفنا تيار الكذب فنحن في حفظ الله ، كم راكبٍ معي أرهقته رياح الكذب فتشكك من الوصول فقفز وانتهى الى موانئ الكذب  ، وسأعترف لكم قبل أن أترككم  ، أن الصادقين يطمحون للوصول الى مرتبة الصديقين ، وهي أعلى مقامات الصدق ، وللأسف الكثير منهم ، تنتهي أيامهم قبل الوصول ، ويبقى موتهم متوجهين الى رضا ربهم ، هو  الشرف العظيم  ١   "


١* مقتبسة من الشيخ ناصر الدين الالباني بتصرف




عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Saturday, May 12, 2012

الدّرس الكبير

منذ أن كان خالداً طفل صغير ، ظهرت عليه علامات النبوغ و النباهة والذكاء ، وأصبح  يقدّر المال جدا ، وقد أعجبه بريقه فعمل بجد واجتهاد ، وتعرّف الى بعض الساسة ، فتفاجئ بسطوة السلطة و سحر النفوذ ، فتقرّب ممن يظنهم كذلك ، وقويت علاقته بهم ، ولأن مزيج السلطة والتجارة غالبا ما ينجح ، فقد توسّع نشاطه وتعاظمت أرباحه .
ولأنجاز أعماله خارج البلاد ، حجز مقعداً في مقدمة الطائرة ، فعلى أرتفاع ٣٠ الف قدم ، حيث يندر الأوكسجين ، وتنخفض الحرارة الى ٥٠ درجة تحت الصفر ، مسح خالد يديه بالفوط الساخنة ، لتبدأ عربات الطعام زيارتها إليه ، تتقدمهم عربة الجبن المجلوب من الريف الفرنسي والزبدة الدنماركية  ، ليلحقهم الزيتون الاسود الاسباني ، والمشروبات المصاحبة ، لكنه يفضل زجاجة الماء من جبال الألب ، وبعدأن  فتحت شهيته للطعام ، سيقت له اللحوم الهولندية ، و سمك السلمون المدخّن  من نهر الدانوب  ، إلا أنه قد إختار لحم  الضأن السويدي المقدد ، فأكثرمنه و شعر بالامتلاء ورغب بالنوم ، ولما أحس بالنعاس داهمته عربة الحلويات ، فجحظت عيناه ، ورغم ثقل بطنه أشار على إستحياء بإصبعه إلى قطعة صغيرة من الحلوى غمرتها الشيكولا الساخنة ، فمدّ يساره ليستلم صحن الحلوى، لكن مضيفته تأخرت عليه بعض الشيئ لتتبع تعليماتها ، فأضافت بعضا من اللوز وقطعة صغيرة من الايس كريم محلاة بطعم الفانيليا ، ولأن النوم قد غالبه ، إلتهمهم بلقمة واحده وتمدد في الكرسي ، و شرع يتذكر لحظات تمرير بطاقته الائتمانية  في جهاز الدفع ، حيث لم تبارحه ذكرى إنخلاع فؤاده بعد ورود إشعار الخصم من حسابه ، فقال بعدها في نفسه  ،إن ما دفعته ثمناً لهذا الكرسي ، قد يفوق ما يقدّم لجميع الركاب من طعام ، ولانه هذه الفكرة أزعجته،  تناساها لينقض عليه النوم ، فانخفضت الاصوات ، وطفأت الانوار ، لكن جاره لم يتوقف يحتسي نبيذه ولم يذق سوى المكسرات ، وكلما فرَغَ كأسه ضرب الجرس وأُعيد ملئه ، وبعد دقائق ،إرتعشت  الطائرة كعصفورٍ خرج من الماء ، وأضيئت الأنوار ، وظهرت علامة ربط الاحزمة ، فعدل كرسيه  وانتظر بترقب ، رجفت الطائرة مرةً أخرى وأخرى وأخرى ، فعلم أنها مطبات هوائية قوية ، وأصبحت الطائرة  مثل قشة في عاصفة ، وتدلت الأقنعة ، وتذكرخالداً فيلماً  شاهده من أيام ، يُشرح فيه أسباب سقوط طائرة نتج عنه ٢٢٠ قتيل ، فتملكه الخوف  ، واستفسر من المضيفة ، وهو يعلم أنها لا تعلم ، لكن هذا كل ما يستطيعه ، وبعدها إستذكر أن رصيدة البنكي في وجهته لم يخبر به أحد ، وأن كل ما عاناه سيكون لقمة سائغة لهم ، لا يدري ما يفعل ، يسمع أصوات الهلع ، وصراخ الاطفال من خلفه ، نظر إلى من بجانبه فإذا به قد أفرط في الشراب ، وبدأ يغني ، أعلن قبطان الطائرة أنها مطبات هوائية  وسيخبرهم بالجديد في حينه ، إقتلع هاتف الطائرة ومرر بطاقته ، واتصل بصديقه الوزير ، قال أنا في الطائرة وأريد أن أعرف الخبر ، رد عليه صديقه ، أعطني ساعة لأحقق في الموضوع ، رد قائلا: ومن أين آتيك بساعة قلبي سيتوقف ! ، قال له الوزير: أنا سأتصل بك حين أحصل على المعلومة ، ردغاضبا : أتسخر مني ، أعتذر الوزير مقهقها ، أعذرني والله لم أقصد السخرية ، وأغلق الخط ، إنخفضت الطائره في مطب هوائي إنخفاضٍ طويل مريع ، تعلق قلبه في حنجرته ، حينها إلتفت جاره إليه وسأل خالد:  ما الامر ؟ قال خالد: مطبات هوائية ، قال ، أنا كثير السفر ، هذه ليست مطبات ، هذه سقطات هوائية  ، إنه أمر كبير ياسيدي ، توسعت مقلتا عينيه ، حين رأى علامات الخوف في عيون من لا يمكن له أن يخاف لغياب عقله  ، عادت المطبات القوية ثانية ، نظر من النافذة وأذا الارض قد بانت من بعيد ، فقد إنخفضوا كثيرا ، عاود الاتصال بصديقه ، فرد عليه ، سيدي سأصدقك الخبر ، أنتم عالقون في عاصفة لا يستطيع القبطان أن يغير إتجاهه لانكم ستتحطمون في محاولة الخروج منها ، عليكم الانتظار نصف ساعة أخرى ، الله معكم ، وبانتهاء المكالمة انقلع قلبه بانخفاض جديد ، يسمع فيه دوي محركات الطائرة التي تعمل في إنعدام الهواء بلا فائدة ، لكن دوي نبضات قلبه كان أقوى، غسل جار خالد وجهه ويديه ، ثم رفع يديه يدعوا ، لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، أشهد أن لا إلاه إلا الله ، وأشهد أن خالد رسول الله ، ثم يعيد ويكرر ، ردد خالد الشهادتين ، شرع يستغفر ، ثم ينظر الى جاره ما يفعل ويقلده ، توقف جاره عن الاستغفار قائلا : ربي أعلم تقصيري في حقك وأعلم ذنوبي التي ملئت السماء والارض ، أسألك بكفالتي للايتام أن تنجيني من هذه ، تعجّب خالد كيف يخاطب جاره ربه ، لكنه قال في نفسه ، لو أنني أحسنت الى أحد وطلبت منه ردّ الجميل لما إمتنع  ومن المنطق أن أسأل الله بأعمالي الصالحة أن ينجيني ، تذكّر خالد أعماله الطيبة ، فلم يتذكّر منها شيئ ، حاول وحاول وحاول ولم يجد ، رفع خالد يديه الى السماء وقال : اللهم إستجب لجاري ، وحين وصلت الطائرة الى وجهتها آمنه ، طلب جاره كأسين ، وقال لخالد إحتفل معي بسلامة الوصول ، إعتذر خالد ولكن جاره أصر ، جامله بشرب رشفة قائلا في نفسه "لقد تعلمت الدرس الكبير ، لن أضع مالاً خارج بلدي " .




عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Saturday, May 5, 2012

ربنا يُؤَمنُنا

إذا علا موج المصائب ، وتمايلت بك السفن ، فادعوا الله مخلص ، فإنه منجّيك لا شك في ذلك ، وإن أظلمت الليالي ، وعصفت الرياح ، وجحظت العيون ، وغزاك الهلع ، فاستمسك بالذي هو خير فانه الركن المتين وهو الملاذ والمأمن ، وإن داهمك الخوف فلابد لعقلك  أن يميل  ، فبعد أن إجتمعت حكمته تتفرق ، ويزيغ بصرك ، وينعقد لسانك وتخونك أفعالك ، لكن الحي الذي لايموت باقٍ ،  فمن يعتصم بالركن الشديد لا يضام ، لكن لنخلع الخوف يتوجب البحث عن أسباب الاطمئنان ، ولا أعظم من معرفة إسم الله المؤمن والذي من معانيه تأمين الخائف ، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )  ومن أراد يطمئن في ظل الفزع فليفهم قول الله عز وجل عن من يحفظ بنوا آدم ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) وهذه المعقبات هي ملائكة تصاحبنا حيثما كنّا ومهمتها أن تحفظنا بأمر الله ومن أمر الله فكل ما يصيبنا هو أمره ، وكل ما تحفظنا عنه هو من قدره ،  فتحفظنا إن أراد الله لها ذلك  ، وتتعاقب علينا وتتبدل في اليوم والليلة ، وقد أرشدنا محمد صلى الله عليه وسلم باحاديث عظيمة إن فهمناها ووعيناها وعرفنا أن الله يحفظنا بسببها تمسكنا بها ، ولن يصيبنا شي ما قلناها وأيقنا معها بقدرة الله علينا ،ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ، قَالَ : أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ ) رواه مسلم (2709) ، كما روي ( خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا ، فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ : أَصَلَّيْتُمْ ؟ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا . فَقَالَ : قُلْ . فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا . ثُمَّ قَالَ : قُلْ . فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا . ثُمَّ قَالَ : قُلْ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : قُلْ : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) وهذا الحديث سناده صحيح فلا تفوتوا المعوذات ، وهذا سيدنا عثمان رضي الله عنه يروي عن النبي يقول : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ ) وقَالَ : فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الْفَالِجُ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ ؟! فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلَا كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَصَابَنِي فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا . رواه أبو داود ، ورواه الترمذي : وآخر حديث أختم به هو ما رواه سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه حين جاءه رجل فقال : يا أبا الدرداء ! قد احترق بيتك . قال : ما احترق ، الله عز وجل لم يكن ليفعل ذلك ؛ لكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من قالهن أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي ، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح : ( اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، أعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ) رواه ابن السني ،  وهذه الاحاديث  ، تذكرنا أن التوكل موضعه القلب ، فحين تحرك شفتيك ولسانك ، فحرك قلبك بالتوكل ، وأن الملك لله ، و الموت والحياة بيد الله ، وأن حفظك لا يكلف الله شيئا !




عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Sunday, April 29, 2012

إحسب قيمتك؟

خرجت من منزلي منزعجاً لأمرٍ ألم بي ، و دخلت مؤسسة قبل إغلاقها بنصف ساعة  لانجاز معاملات ، حييت الموظف وابتسمت وجلست، رد الابتسامه والتحية ، وبعد إيضاح معاملتي الاولي ، إقترح قائلا:  إن رسوم خدمتنا عالية ، فقلت أنا أرغب أن أتمّها هنا ، فشرع  بإتمامها ثم تطلب إنجازها بعض البيانات الناقصة ، فعرضت المعاملة الثانية فقال ان مؤسستنا مكلفه كما أنك تحتاج بعض البيانات ، لو ذهبت خارجاً أرخص  لك ، عاد إنزعاجي السابق  إلي ، و ظننت انه يريد تصريفي لينهي عمله ، وينصرف الى بيته ، فقلت ببعض العدوانية ، يبدوا انك "تزحلقني" ليذهب اخر مراجع في هذا اليوم وينتهي عملك ! فقال بهدوء وثقة  انا اريد حماية مصالحك ، رددت عليه :  يتوجب عليك حماية مصالح من يدفع راتبك ، ان ما تفعله غير مقبول ، وبهدوء لا يناسب صغر سنّه ابتسم ، ثم قال انا اعتذر وكلامك صحيح وقام ينهي ما تبقى من  معاملات ،أعجبتني لباقته وسعة صدره ودماثة اخلاقه ، فقلت له أتقبل النصيحة ؟ قال نعم وبكل سرور ، قلت لم حاولت تصريفي؟ قال : لم أكن أريد تصريفك ولكني تفرست في وجهك وأعجبتني هيئتك وأردت ان أتودد اليك بان أرشدك لما ينفعك لكني أريد سماع نصيحتك ، قلت له الانسان نجّار أفكاره ، يقطع هذه الفكرة ثم يصنفرهاو يلمعها ويوصل هاتين الفكرتين ليبني بيتا سعيداً من أفكاره ، وهو من خشب هو من صنعه ليعيش فيه  ، ثم يحسب انه البيت السعيد الوحيد ، لكن بكل تأكيد هو بيوت أسعد منه، إن اغلب الناس تجد المتعة في الانتهاء من العمل وهذا من الافكار التي ننجرها ولا نفحصها جيداً ، ومن يفعل ذلك ، يبقى ينتظر نهاية  الحدث ،  وهذا الاسلوب يحولنا الي فأر سباق ( من كتاب happier للمؤلف Tal Ben-Shahar)  وهذا الفأر لا يستمتع بالرحلة وإنما يعيش فكرة نهاية الرحلة ليأكل الجائزه وكذلك الكثير من البشر ، يعمل بهدف أن ينتهي العمل ، ثم يعيش الاسبوع بهدف نهاية الاسبوع ، ثم يكدح طوال السنة ليحصل على إجازه فكلما  وصل  الي نهاية أمر وجد ان هناك هدفا اخر يركض له وأكلاً أخر يتذوقه ، وبالرغم من أن طريقة فأر السباق فيها بعض الإثارة ، الا إن هناك طريقة أفضل وبيت خشبي أسعد ، وهو أن يستمتع الانسان بالرحلة ثم يستمتع بالوجهة  وهذه نصيحتي لك  " ان تتمتع بالاتقان كما تتمتع بالانتهاء" .
لم يكن يدفعني للاستمرار سوى روعة إصغائه ، وصدق حديثه ، وحين لم أجد أشارة منه تفيد ثقل كلامي عليه ، أكملت  قائلا له أتعلم مالذي يجعلنا نتمتع بالانتهاء من العمل وليس في العمل ؟ فنظر إلي يفكّر ، لم أنتظر إجابته فقلت :انها القيمة ، اننا نصنع في عقولنا بيوتنا الخشبية التي نبنيها من أفكارنا وتصوراتنا ونجعل فيها قياسات الغرف حسب رغباتنا ،فنجعل قيمة كبيرة للانتهاء من العمل ( كأن نصنع حجرة كبيرة نرتاح فيها  ) بينما نصنع قيمة أقل لاتقان العمل - ويعود سبب جعلنا قيمة أقل للاتقان (وهذه النقطة أبينها للقارئ فقط لأني لم أشرحها له في حينها) يعود الى  مراحلنا الأولى ، ففي طفولتنا لم نكن نفكّر في قراراتنا بعمق ، وعند النضج يستمر الكثير منّا في طفولة التفكير من سرعة إتخاذ القرار واستعجال الجوائز وبراءة الطفولة التي لا تحسب العواقب ، ولا نحاول أن نقول توقفي يانفسي ، وفكّري بعمق أكثر - ثم أكملت الحديث وقلت نحن نستطيع ان نصنع المتعة في العمل والاتقان لكن الامر لن ينجح من اول مرّه ، يتوجب أن ننظر الى الاتقان أنه هو الهدف وليس الانتهاء هو الهدف ويكون ذلك بطريقة التفكير بعمق ، بأن نحسب فوائد الإتقان ، وثمرة الاخلاص بالعمل ، ونربطها بقيمتنا وصلاحنا وقدرنا وهذا الربط هو مفتاح التحوّل ، فكما يقول علي بن أبي طالب " قيمة المرء ما يحسن " وكلما أديت الخدمة تذكر قيمتك وقدرك  وأنها ستتأثر ثم حاول أن ترفع مستوي الخدمة للمستوى الذي ترتضيه  قدر ما تستطيع وعندما تنتهي من عملك راجع نفسك وحاسبها ان كانت تستطيع تقديم الافضل ، ومع التكرار سيأتي يوم تجد انك تذهب الي الاسترخاء ولا تجد فيه راحة ، لشعور أنك لم تتقن العمل كما يجب ، وهذا هو البيت الخشبي الأسعد و الراحة الحقيقة هي في السقف الاعلي للاتقان لا الهروب من العمل .
نظرت الي الساعة , فوجدت موعد اغلاق المؤسسة قد انتهي من نصف ساعة ، الا ان تعطشه للسماع قد حرك قريحتي وشفتي  فلم أتوقف ، إعتذرت منه على ما بدرمني واستلمت المعاملة المنجزة  ثم انصرفت ، وكما تقول العرب "قل لمن لا يخلص لا تتعب ".

عبدالله عبداللطيف الابراهيم

Wednesday, April 18, 2012

شواطئ البشر

شواطئ البحار متنوعة برمالها ومياهها ، والناس كالشواطئ ، منهم  شاطئ رملي ، تنطلق فيه العيون فلا تجد آخره ، يأسر قلبك صفاؤه ، تتناغم زرقته مع نعومة رماله ، و بلا إدراك ، تنجذب مقترباً ، وبثوب السباحة تقفز مبتهجاً ، فتشق صخوره قدميك ، فتقول لنفسك : لن أعود اليه أبداً، ولو عدت دون أن تسبح لكان أفضل لك ، وهذا شاطئ جبلي مياهه بالاسفل ، يحدّه الجبل ، وتسأل نفسك: هل إقفز من أعلى لأسبح ، و لانك تخشى الانزلاق ، تتركه ولا تعود ، ولو عدت دون أن تقارب ثم راقبت البحر من علو لاعجبك المشهد، وهذا شاطئ عكر ، تضربه الرياح ، ، فتتركته دون أن تجرب السباحة لكنها ممكنة.
ومن غريب الدنيا ، أنها لا تحلوا بلا أناس نجالسهم ، ولا تصفوا بهم إن جالسناهم ، فإن أحسنّا إلى الناس أساؤوا ، وأن توددنا شكّوا ، وإن كشفنا ظهورنا لنريهم طيب معدننا، أسرجوها بطلابتهم ، وأن أدرناها لهم ، قذفوها بسهامهم ، فمن تعجبنا هيئته ، تصدمنا سريرتُه ، ومن يغلبنا طيبه ، يصفعنا طبعه ، ومن تخجلنا خدماته ، لا تسعدنا طلباته ، ومن لا نجد منقصته ، تنقصنا مجالسته ، الامر محير مستعصٍ عسير ، إن اقتربنا ، تأخروا ، وأن تأخرنا تقدموا.
والشواطئ من البحور ،لا تنفصل عنه ، فالشاطئ الجميل هو إمتدادٌ لبحرٍ عميق ، وكما أن الشواطئ تختلف عن البحور فكذلك البشر يفكرون بطريقة ثم يتعاملون بطريقة أخرى، فعلم النفس يكشف كيف نفكر و يفكّرون ، وعلم الاجتماع يشرح كيف يتفاعلون .
 ولأنها شواطئ و تزورها الرياح ، فيعلو موجها وليس ذلك من طبيعتها ، فكذلك البشر، فلا نستعجل بأحكامنا ، فمن يغضب لا يعني أنه غضوب ، فلربما شاطئه هادئ لكن رياحه عاتية ، وظروفه غير مواتية ، وتسكن الرياح ويعود للهدوء ، ولتقترب من الشواطئ ، إياك والهرولة ، فلربما حجر يجرحك ، أو حفرة تخدعك ، إستبدل خطواتك الكبيرة والسريعة بنقلاتٍ صغيرة مدروسة ، فمن يعجبك ظاهره ، افحص منه باطنه ، لكي لا تخطو وتتراجع ، وان خطوت اليه خطوة ، فانتظره أن يخطو اليك لتخطو اليه ثانية ، وإن وجدته غير مهيأ أعطه مزيداً من الوقت فلعل ظروفه غير مناسبة أو باله مشغول يمنعه أن يرى طيبك وجمال روحك .
 والناس ثلاثة ، فواضح ( أبيض أو أسود ) وملوّن وشفّاف ، وأولهم الواضح فهو إما أبيض ناصع أو أسود فاحم ، إما صديقٌ صحيح أو عدوٌ صريح وكلاهما لهم ذات المعاملة لان الخطورة المخفية قليلة ، فترى أفعالهم توافق أقوالهم فإن عادوك أظهروا العداوه وإن آخوك أظهروا المحبة ، وأما من يحتاط له فهو الشَّخص المتلوّن ، فتراه بكل لون ، تصبُغُه المصلحة ، صديق حميم ، ونمّام أثيم ، يجالسك فيتلوَّن بك ثم يتلوّن مع غيرك ، وان رآى مصلحته مع غيرك إستعمل ما قلت له ضدك ، فلا يؤمن جانبه ، فتّش عنه كي لا يخدعك ، ولا تهمل إشارات التلوّن وأهمها تغيير المواقف ، ومخالفة الاقوال  ، فهو شديد الذكاء في الاقتراب منك ، وشديد الذكاء في إستعمال ما تقول له ، ولا تفتّش عن النوع الثالث لأنه الشفاف ، الذي ترى صفاء نفسه ، وتعلم منه مايفكِّر قبل أن يفعل ، فإن آخيته فاعلم أنك حظيظ. 
ومن يريد أن تفتح له قلوب الناس فعليه بمفاتيحها وهي بفنون التعامل ، مثل فن الحديث ، وأدب الاستماع ، ولباقة المخالفة ، ومعرفة المقامات ، وفراسة الوجوه ، وعبقرية التحليل ، ومنتهاها في ربط الإشارات  بالأقوال والأفعال ،  وفهم  توجهات الناس  وتياراتهم ، وكلما مزجتها كنت أقرب الى الناس لانك تعرف ما تقدّم لهم وما تأخر عنهم ، ومن يتجاهل كل هذه الفنون ويريد من الناس أن يكرموه لأنه يحسن التبسٌم أو يجيد فناً واحداً ، فهو كشحاذٍ يدخل بنعليه قصر الملك ، ويجلس على كرسي وزيره ، ثم يرفع رجله في وجهه ، ويطلب ماءً لعطشه ثم يأمره بطلباته ، ويظن أنه سيجيبه.


عبدالله عبداللطيف الابراهيم
@boslaeh



Monday, April 9, 2012

راحلتك في رحلتك



كم هاجرٍ للاصحاب انطوى وغدى في بلده غريباً من الاغراب ، وكم محتاجٍ للخلان لايجد من يشكو له ، فأثقلت ظهره الايام و الليالي بالهموم  و ضاق به الحال فلا يجد أحد يفك له أثقاله وينزل عنده أحماله ، إعتزل الناس خوفاً من أذاهم لكنه هرب من مشكلة الى مشاكل ، ومن أذى الناس إلي الى أذاه لنفسه ، لم يشارك أصحابه حياته ، فشاركته الهموم صدره ، ترك أذى الناس لكنه أسكن الأذى أفكاره ، فتراه يعادي من يجالسه ويزعج أهله و يأذي جيرانه ، لكن لسان حاله يقول : أحبوني ، إهتموا بي ، لم لا تكترثون ؟ فهو لا يشبع حاجة ماسٌة لديه وضعها الله في قلبه وعقله ، إنه يحتاج من يحبه ويحترمه ويوجهه .
أعجبتني دراسة مشوِّقه وجميلة حول تعرُّض مجموعة من المراهقين  لأذي نفسي شديد لفترة طولة بسبب إضطهاد وضغط نفسي وتجاهل  الا أن فئة منهم  لم تصبها ذات الامراض النفسية التي أصابت غيرهم  كالكآبة والقلق  بالرغم من أنهم تعرّضوا لذات الاذى فقد ذكر الدكتور  Daniel j. siegel صاحب كتاب ( mindsight ) أن الدراسة  ركّزت على من لم يصب منهم ، فقد كان لديه شخص يشاركه لحظاته العصيبة ويعينه ويعضّد له ، فهجر الأصحاب ليس علاج لمشكلة أذى الناس وإنما هو مفتاح لمشاكل نفسية كثيرة .
إن أفقر الناس هو من يعرف الكثير ولا يجد الصديق ، يقول صلى الله عليه وسلم " الناس كالإبل المئة ، لا تكاد تجد فيها راحلة" ، أي أنك تجد الكثير من الابل لكنك تعجز أن تجد لك منهم راحلة تحملك وتريحك ، وأفضل الاصحاب من تطفئ عقلك الواعي معه وتتحول الى عقلك اللاواعي ، لا تحسب للقول والفعل حساب ، كأنك تخلو بنفسك ، فتعبّر عن مشاعرك بتلقائية ، وتتحدث عن ما يزعجك بانسيابية ، لاتجد منه إنتقاداً حول إسلوبك فهو قابلٌ بك بلا تحفظات ، ومطلقٌ لك العنان لتقول ما تشاء و مرخي حبال قاربك لتبحر حيث شئت ، إن ضايقك همٌ ، إغرورقت عيناه ، وأن أفرحك أمر علت ضحكاته ، علّمني الإستاذ فيصل عايد الفايز أن الصديق هو من أضع يدي في جيبه وهو مسرور ، وإن كان فارغا من المال، إقترض ليعطيني
 إن البحث عن الاصحاب أمرٌ عسير ، وأغلب الناس تصاحب من تلقاه لزمان ومكان إجتمعوا فيه دون عناء البحث ، وتنسى أن الصحبة هي بذرةٌ نبذرها مرّة ونسقيها مليون مرّة ، فتخيّر بذرك ، فانك ساقيه كل يوم ،وإحذر أن تبذر لشجر غير مثمر فإن البذور تتشابه ، وتحاشى بذر الشوك ، فكلما سقيته قوي شوكه ، وكبر جرحه . 
ولربما يتجرأ عليك صاحبك ، ويخطأ بحقك لا تحقيراً لك إنما ثقةً بمنزلته عندك ، وربما يكون الخطأ كبير لا يمكن لاحدٍ أن يتجرأ به عليك ، فننسى الوفاء ونستحضر الخصومة و تذكّر أن تضع خصامك في ميزان ذو كفتين ، كفة تزن بها السنوات التي قضيتها وكفة تضع بها الايام التي تخاصمت بها لتحكم بالعدل على صداقة طويلة .
إن الحاصل على الصديق هو من لا يكل ولا يمل بحثه ، يتقرّب من الكثير ، ويراقب الكثير ويخالط الكثير ، ليحظى بالقليل النادر ،" فلا كل من تهاه يهواك قلبه ، ولا كل من صافيته لك قد صفا" و " إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ، فلا خير في خل يجيئ تكلفا " لكن الكثير منّا يُختار ولا يَختار ويظن أنه بلا بحث سيطرق الصديق بابه طالباً صحبته، وقد تمنعه عزة النفس أن يخطب صحبة أحد،أو قد يحول الحياء من التقرب ممن ظهر حسن خلقه ، واحتُمل طيب سريرته ، يقول الفاروق لولا إخوة يتخيرون أطايب الكلام كما يتخيرون أطايب الثمر لما أحببت البقاء ، ونعود الى شعر الشافعي الذي أوردناه ونختم به " سلامٌ على الدنيا اذا لم يكن بها، صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا "

عبدالله عبداللطيف الابراهيم
@boslaeh